أن تجدنا نصرف عنها ولو جزء من عنايتنا ورعايتنا إلى أخيها وديع أو أي مخلوق سواه، وهي تفهم من ذلك أننا نزدريها ونجدها غير خليقة بالاستئثار بكل حبنا وعنايتنا.
وعبثاً كنا نحاول - أبوها وأنا - إقناعها بأن لها المنزلة الأولى وأنها وحدها الأثيرة عندنا، وأننا لا نحفل وديعاً إلا رأفة به، وأننا سنتخلص منه يوماً ما ونريحها ونريح أنفسنا منه. وكنا نتظاهر معها باحتقاره ونجاريها في تعداد عيوبه ومثالبه. وكنت أتحاشى أنا إرضاعه أو مداعبته أمامها، ولكنها كانت تراقبني فتراني أحيانا متلبسة بتقبيله أو ملاعبته فتعاتبني بنظرة أبية وتنصرف، كأنها تقول: إنكم تخدعونني!
قالت لي يوما: ماما. . . ماذا تصنعون بهذه الخليقة الحقيرة؟ أنه مجنون يبكي ويصرخ بلا سبب! وقذر جداً. يحدث في ثيابه وفراشه ونفسي تشمئز منه! وليست فيه فائدة لنا. إني أحسن منه، وعاقلة ونظيفة! فلماذا لا تلقونه في الطريق؟. . .
فقلت لها: لا يا بنيتي، أنه صغير مسكين، ومريض. ولهذا ترينه يبكي.
فقالت: لا يا ماما. أنه يكذب! أنه لا يبكي بل يصرخ فقط، ولا تسيل من عينه دمعة واحدة! فلو ألقيته في الطريق للكلاب لاسترحت منه، فإنه يتعبك كثيراً وأخاف عليك أن تمرضي!
فأجابتها لو ألقيناه في الطريق يا إيلو لحق علينا غضب المسيح فلنشفق عليه إكراما للمسيح حتى يشفى من علته - فنتركه وشأنه. ما قولك في هذا يا إيلو؟
فقلت: لا، ولكنه يحب الضعفاء والمرضى، ويوصينا بالعناية بهم والعطف على بؤسهم.
فقالت مغضبة: لماذا يا ماما لا يحب المسيح الأصحاء النظاف والعقلاء، ويؤثر عليهم الذين فراشهم منتن مثل وديع الكلب؟ أليس المسيح جميلا وطيباً كما تقولون. إني ابغضه!
ورأت بعد ذلك أن الجدال والمنطق وحدهما لا يعودان عليها بفائدة، فراحت تبرهن لنا ولمن يتصل بها وبنا عملياً على أنها كفء لكل تقدير وإكبار، وأنها وحدها الجديرة بكل الإعجاب والاهتمام. فصارت تستيقظ مبكرة مع العصافير، وتلقى بنظرة شاملة على البيت وتشرع بانتقاده وتصف فساد نظامه بخطاب موجز، ثم تأخذ بترتيبه على رأيها ووضع كل شيء في محله. وتغسل أواني الشاي وتنصب المائدة قبل أن اشرع أنا بإعداد الشاي نفسه. ثم تأخذ بالمكنسة لتنظف الدار! وتجشم نفسها من المشقة والنصب ما لا قبل لطفولتها به،