بحقوقهم ليس كافيا في أن يعينهم على نفاذ أي إصلاح دائم أو يعتد به، فلست أسألكم أن تنبذوا هذه الحقوق، إنما أقصد أنها لا يمكن أن تتحقق إلا كنتيجة للواجبات النافذة، وأن على الإنسان أن يبدأ بالأخيرة كي يصل إلى السابقة. وإذا قلت أن اتخاذ السعادة أو الرفاهة أو المصلحة المادية غرضا للحياة، إنما يؤدي إلى إخراج أناس أنانيين، فلست أعني ألا تسعوا مطلقا وراء هذه الأشياء، بل أقرر أنه إذا جرى الناس وراء المصالح المادية فقط واعتبروها غاية لا وسيلة فإنهم يسوقون أنفسهم إلى هذه النتيجة السيئة الخطيرة: ذلك أنه لما أصبح الرومان الأقدمون في عهد الأباطرة لا يطلبون غير العيش واللهو تدهوروا إلى أحط دركات الشعوب. ولما استناموا إلى مظالم الأباطرة الوحشية الخرقاء كان حتما عليهم بعد ذلك أن يصبحوا عبيدا أذلاء للغزاة البرابرة.
وفي فرنسا وغير فرنسا كان أعداء أي تقدم اجتماعي يجهدون في نشر بذور الفساد، وتضليل عقول الناس عن مناحي التغيير، بتشجيع النزعات المادية، فهل لنا بعد ذلك أن نعين العدو بأيدينا! إن الإصلاح المادي ضروري. وعلينا أن نسعى في الحصول عليه لأنفسنا، ولكن لا لأن الأمر الفرد المحتوم على الإنسان هو أن ينعم بالطعام والمسكن، بل لأنكم لا تستطيعون أن تشعروا وشئ من الكرامة أو أي معنى من معاني سمو النفس إذا كنتم منهمكين كما أنتم الآن في مغالبة مستمرة للعوز والفاقة. أنتم تشتغلون عشرا أو اثنتي عشر ساعة في اليوم، فكيف تستطيعون أن تجدوا وقتا تثقفون فيه أنفسكم؟ وأكثركم لا يكاد يحصل من الرزق على ما يكفي لإعالتهم أو إعالة أسرهم، فكيف تستطيعون إذن أن تجدوا وسيلة لتثقيف أنفسكم؟ إن زعزعة خدمتكم وما يعتريها من فترات الانقطاع الكثيرة تتراوح بكم بين المجهدة والبطالة. فكيف تكتسبون عوائد النظام والمواظبة والمثابرة؟ وزهادة أرزاقكم تذهب أي أمل في توفير ما يكفي يوما ما لنفع أولادكم أو عونكم أنتم في شيخوختكم، فكيف يتيسر لكم أن تربوا فيكم خصائل الاقتصاد؟ بل إن كثيرين منكم تضطرهم الفاقة إلى أن يحرموا أطفالهم - لا نقول من مهاد التربية إذ أية تربية تستطيع نساء العمال البائسات أن يقدمنها لفلذات أكبادهن - بل يحرمونهم من حنان أمهاتهم ورعايتهن، ويرسلوهم في سبيل بضعة دريهمات إلى المصانع حيث يكابدون أعمالا ضارة بصحتهم. فكيف نأمل وهذه هي الحال أن تزهر المحبة العائلية ويسمو قدرها؟