تفاوت الأذهان والعقليات في الحكم على ما يدعى من الكتابات بأنها سهلة فصيحة أو سهلة ممتنعة
وهكذا فالكلام يحسن بعذوبته وجزالته ورصانته مع سلاسته ونصاعته. وإذا اشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من حيث التآلف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب فقبله ولم يرده، وعلى السمع المعيب فاستوعبه ولم يمجه. والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ وتقلق من الجاسي البشع. وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه وينفر عما يضاده ويخالفه، والفهم يأنس من الكلام رقيقة وعذبة، وينقبض عن الوخم ويتأخر عن الجافي الغليظ ولا يقبل الكلام المبتذل
وليس هذا هو الشأن في إيراد المعاني. ولكن المعاني يعرفها الجاهل والعالم والكاتب الحصيف ذا الخيال الرائع والكاتب الناحل من كل ذوق وبراعة. وإنما الشأن هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ولا يقنع من اللفظ بذلك.
ومن الدليل على أن مدار البلاغة تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والكتابات الراقية ما عملت لإفهام المعاني فقط وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته ورونق ألفاظه وغريب مبانيه على فضل كاتبه وفهم منشئيه.
وقد قال عبد الكريم الموصلي في كتابه (المثل السائر):
(إن خواطر الناس وان كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ ثم يأتي الأخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينها من غير علم منه بما جاء به الأول).
لاشك أن حسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا فإذا كان المعنى سلبيا ورصف الكلام رديا لم يوجد له قبول ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا كان أحسن وقعا وأطيب مستمعا. فهو بنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعا في المرأى وأن يكن مرتفعا جليلا وان اختل نظمه فضمت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وان كان فائقا ثمينا. وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في