قال الشاب الطبري:(فرأيت خراسانيا ينادي، معاشر حاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده على، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا، فيأخذه ويرده عليك. قال الخراساني: يا أبا. وكم يريد؟ قال: العشر، مائة دينار. قال: يا أبا. لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى. وافترقا).
قال الطبري:(فوقع لي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة! قالت: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً، فقال: كم؟ قلت؛ عشره. قال لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فأيش نعمل؟ لا بد لي من رده. فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله اكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس، انك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة. . .
وتصور الشيخ بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحبطة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه. . . ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. . . لقد ود لو استعان بشيء من هذه الدنانير. . . ولكنه ذكر إنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة اليوم، وذكر إنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله فما كان ليلقاه خائناً أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه، وصاح بها: