تقبل، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها. . . وان هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعرى والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم إن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة؟ لا والله، ولقد روي في الحديث أن (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه)، فترك له الهميان، وقال للخراساني:
تعال خذ هيمانك. . .
فقال له: امش بين يدي. . .
قال الطبري:(فمشيا وتبعهما، حتى بلعا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فاخرج الهميان اسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه، وقال: هذا همياني.
ثم حل رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً، ثم قال: هذه دنانيرنا).
وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله، وحسبنه قد فقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم. . . يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه. . .
(وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده، ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج). ولم ينظر في وجه الشيخ، ولم يلق في إذنه كلمة شكر. . . وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قبلها، فطارت وراءه، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا. . . فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس. . .
وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع. . . فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد،