وهكذا ماتت الخرافة في سرعة جديرة بموضوعها لائقة بشأنها، فتلقى الناس موتها بالأسف والخيبة لأنه حرمهم أعجوبة طريفة، وهم لا يشبعون من الأعاجيب حتى في عصر الأعاجيب، وأخصها السرعة التي يصح فيها قول أبي العلاء:
ولما لم يسابقهن شيء ... من الحيوان سابقن الظلالا
فهم يودون لو تنقلب الدنيا كلها أعاجيب على شريطة أن تحفظ فيها (معجباتها)، ولا تصبح كعجائب المتنبي التي كثرت حتى لا عجائب فيها. وليتهم يجربون هذا الانقلاب أسبوعاً واحداً ليعلموا أن الوقائع والمألوفات لها (قيمة) حقيقية بالعرفان فلا يتبطروا عليها!
والظريف حقاً في قصة هذا الصبي أننا رأينا له صورتين. فإذا هو أشبه إنسان بملامح غزال؛ سواء في دقة الجوارح أو في تركيب الجمجمة أو النظرة المجفلة والوجه المسنون. فلو ظهرت خرافته في عصر من العصور الوسطى لكانت هذه الصورة مصدقا لكل إشاعة من إشاعات الخرافة المختلفة، فيقول من شاء إن لبن الرضاع ينقل الشبه من الحيوان إلى الإنسان، ويقول من شاء أن مولود غزالة بخارقة من الخوارق، ويكون حظه من التصديق والإعجاب أتم وأعظم من حظ القائل بانتقال الملامح مع الرضاع، بل يحق له حينئذ أن يشهر سيف التكفير على من ينكر هذه الخارقة ويشك في إمكانها، لأنه يستكثر تلك الخوارق على قدرة الله.
ومن خصائص هذه الحالة في عصرنا أن تقع في أيدي الأطباء الذين يعرفونها ويفسرونها وقد يوفقون لعلاجها، ولكنها لو تقدمت في الزمن لكان أكبر الظن أن تقع في أيدي المشعوذين الذين يستغلونها ويبالغون فيها ويجدون من إشاعات الناس التي يتطوعون بها ما يزيدها ويساعد على ترويجها. . . فهذا الطفل إذن قديس مبارك قد أعده الله للولاية في البرية وحرمه النطق ليكتم أسرار الغيب ولا يبوح بها إلا بترجمان على حسب الوحي والتقدير، وهذا البغام هو اللغة التي يفسرها الحواريون المحيطون به ولا يقدر غيرهم على تفسيرها، وهذه الظبية - ويحضرونها يومئذ في صحبته! - هي أم القديس التي خصت من بين الحيوان بهذا الشرف العظيم، ويباع شعرها بل بعرها للبركة (كأنه حب فلفل. . .) أو يزيد.