لها بذلك، وعالج بعضه بيده، حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة، فأبت إلا الجحود. فقال لها: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسود وجهها وتغيرت. فقالت نعم يا أمير المؤمنين، تلك في بني سليم. قال: صدقت، هي والله أمتي، ابتعتها بمالي، ورزقي يجري عليها في كل شهر أمرتها أن تدخل منازلكم، وتحجمكم، وتعرف أخباركم. أو تعرفين فلانا البقال؟ قالت نعم، هو في بني فلان. قال هو والله مضاربي بخمسة دنانير أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع. فأخبرني أن أمة لكم في يوم كذا من شهر كذا، صلاة المغرب؛ جاءت تسأله حناء وورقاً، فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع، وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب.
(قال: فأسقط في يدها، وأذعنت بكل ما أراد.
وهذه القصة والتي قبلها تبينان لنا كيف سخر أبو جعفر أحد جنده، وأمته، وبقالا مضارباً له، للتجسس وجمع الأخبار
ولعلك تعلم حبه تتبع الأسرار مما سأقصه عليك. قالوا: إن أبا جعفر قال ذات يوم لأصحابه: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. ثم عرض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة: آه، آه! قيل وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
وكان الرشيد من أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً. وكان يتسقط أخبار الهادي قبل أن يصبح هو خليفة؛ فقد كان مسرور الكبير في خدمة المهدي، وكان الرشيد حفياً به محسناً إليه. فلما انتقل أمر الخلافة إلى الهادي قال له الرشيد: أخي قوي الشراسة، وأنا أخاف إيقاعه بي، وجمع الناس على بيعة ابنه بعده. وأنا على غاية الثقة بك فاعدل إليه، وكن له عيناً عليه) فتقدم مسرور عند الهادي حتى تولى ستر بيت خلوته فكان ينهي إلى الرشيد كل كلمة من كلماته، وفعلٍ. . .
وكتب الأدب والتاريخ مترعة بأخبار تتبعه أسرار رعيته حتى كان ذلك يدفعه إلى إخفاء