وكان العمل على أن تقلب العصا، وأن تقرأ كلمات السحر في عكس اتجاهها، وأن تفكك القيود التي تشد الشعب الأبله إلى مقعد السحر، كل أولئك كان ما يسعى إليه ملتن من غرض نبيل، وإلى هذا الغرض وجه مسلكه فيما يتصل بالناس كله، فمن أجله انضم إلى البرسبتيرينز ومن أجله اعتزلهم، ولقد خاض معركتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكنه نأى بجانبه عنهم مشمئزاً ساعة انتصارهم الوقح، ورأى أنهم كانوا كمن هزموهم لحرية الرأي أعداء، ومن ثم فقد انضم إلى المستقلين ودعا كرمول أن يحطم ما نسب إلى الدين من عل وأن يخلص الضمير الحر من مخلبي الذئب البرسبتيري؛ وهاجم ملتن وهذا الغرض النبيل نصب عينيه قانون الطبع والرقابة في مقال رفيع الطراز يجدر بكل سياسي أن يلبسه كشعار فوق يده وكذؤابة بين عينيه؛ وكانت لا توجه هجماته بوجه عام إلى المساوئ الخاصة بقدر ما كانت توجه إلى تلك الأخطاء المتأصلة التي تكاد تبني على أسسها جميع الأخطاء ألا وهي العبارة الخانعة لذوي المكانة من الناس، والخوف الذي هو ليس من العقل في شيء من كلُّ تجديد.
ولكي يزلزل أسس هذه النوازع المذلة زلزالاً أشد وأوفى بالغرض، كان يختار ملتن نفسه دائماً مما يبذل من الخدمات الأدبية ادعاها إلى الشجاعة والجرأة ولم يكن يأتي قط في المؤخرة بعد أن تنقص الأيدي من الجهود الخارجية وتنفذ الجنود من الثغرة، وإنما كان يدفع بنفسه المقدمة إلى ما تتخاذل دونه الآمال.
ففي بداية ما حدث من أوجه التغير، أخذ يكتب بكل ما في وسعه من نشاط وفصاحة لا يجاريه أحد فيهما منددا بالقساوسة، فلما بدا له أن آراءه قد تم لها الغلبة تجاوزها موضوعات أخرى، وترك القساوسة إلى طائفة كبيرة العدد من الكتاب أسرعت بعده إلى التهجم على تلك الفئة التي تهوى. . .
وليس ثمة من عمل أشد خطراً من الاضطلاع بحمل مشعل الحقيقة إلى المجاهل الموبوءة التي لم يضئ فيها نور قط ولكن ملتن كان يختار لنفسه دائماً أن يقتحم ذلك الضباب الصاخب، وكان يسره ذلك الاختيار كما كان يسره أن يركب الأخطار في ذلك الاكتشاف الذي يبعث الرعب؛ ويجب على أشد الناس إنكاراً لآرائه أن يحيطوا بالتوقير ما لاقاه في