للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نبلا، فمن البرلمان والبلاط، ومن مجتمع المنشقين على الكنيسة والغناء القوطي للكتدرائية، ومن حلقات البيوريتانز الكئيبة الموحشة كالقبور ومباهج عيد الميلاد عند ذوي الجود من الفرسان، من كلُّ أولئك انتقت طبيعته واجتذبت لنفسها كل ما كان عظيماً صالحاً بينما نبذت كلُّ ما من شأنه أن يشوه تلك العناصر الخلقية من الخلال السافلة البغيضة. . . فعاش كالبيوريتاز عيشة من يمسي أبداً أنه تحت عين البارئ الأعلى، وكان مثلهم لا ينقطع تفكيره في المهيمن العدل؛ وفي الجزاء السرمدي؛ ومن ثم فقد أخذ عنهم احتقارهم للعليل الظاهرية، وقوة بأسهم وطمأنينتهم وعزمهم الذي لا يلين؛ ولكن أعظم الناس شكاً في الدين وأكثرهم استهزاء به لم يكن أكثر منه انطلاقاً من عدوى أوهامهم الجامحة، ومن عاداتهم الوحشية ورطانتهم المضحكة، وازدرائهم العلوم ومعاداتهم متع الحياة؛ ولئن كان يكره الطغيان أشد الكره فإنه كان على الرغم من ذلك يتصف بتلك الصفات الغالية القمة التي يتحلى بها من يكتسبها، والتي كادت تكون وقفاً على أنصار الطاغية فلم يك في الناس من هو أكثر منه إحساساً بقيمة الأدب، ولا أرق منه استساغة لكل متعة مهذبة، ولا أكثر منه شبهاً بسجايا الفروسية فيما يتصل بالشرف والحب، ولو أنه كان ديموقراطياً في آرائه إلا أن أذواقه وصلاته أكثر كانت مشاكله للملكية والأرستقراطية؛ ولقد كانت تحيط به كافة المؤثرات التي أضلت ذوي الأناقة والشجاعة من الفرسان، ولكنه لو يك عبداً لتلك المؤثرات بل كان سيدها المسيطر فكان كبطل هوميروس الذي استمتع بلذاذات السحر جميعاً ولكنه لم يعتقله السحر، فقد أصغى إلى أنشودة (السبرينز) ولكنه اتخذ سبيله في البحر بقربهن فلم تمسه منهن غواية تجنح به إلى شاطئهن المخوف. وشرب من كأس ميرسْ ولكنه كان يستحوذ على ترياق أكيد يبطل أثر حلاوتها الساحرة، وكذلك كان ملتن، فلم يك ما تملك خياله من الأوهام ليوهن من قوة حكمه على الأشياء فكان له من رجل السياسة في شخصه دريئة تدرأ عنه ما يسحر الشاعر فيه من أسباب الروعة والجلال والخيال؛ ويدرك ما نعنيه بقولنا هذا كلُّ من يتبين مبلغ ما هنالك من تضاد بين ما أفصح عنه من عواطفه فيما كتبه من مقالات عن القساوسة وبين تلك الأبيات الرصينة الجميلة عن العمارة الكنيسة والموسيقى الكنيسية في قصيدته البسبروزو التي نشرت حوالي ذلك الوقت الذي نشرت فيه المقالات، وتلك من المتناقضات التي تسمو بأخلاقه في نظرنا أكثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>