بتلاعب لفظي يفهم منه أن البرسبيتر ما هو إلا قسيس كتب اسمه غير مختصر.
وبعد هذه المقطوعة آثر ملتن أن ينفض يديه من الخصومات ولعله سئم طول القتال، أو لعل ذلك لأنه في الواقع لم يجد ما يثيره ويسخطه، أو لعله يئس من بني قومه جميعاً ورآهم لا يستحقون منه ما يلقي من أجلهم من عنت الخصومات وغل الحزازات.
ولكنه وقد ركن إلى الراحة لم يظفر بها في بيته فقد ازدادت في البيت دواعي متاعبه وضيقه، فأضيف إلى ما فيه من جلبة صراخ بنتين ولدا له تباعا في سنتي ١٦٤٦ وما بعدها، وما زال جيرانه وأنسباؤه يضايقونه بمشكلاتهم وأحاديثهم التافهة التي يتجرعها ولا يسيغها، لقد شكا من هؤلاء الناس فيما كتبه إلى صديق له بإيطاليا سنة ١٦٤٧ يصف حاله فقال:(هؤلاء الذين لا يربطني بهم إلا مجرد الجوار يحرضون لمجالستي كلُّ يوم فيضجروني بل يكادون من فرط ما أحس به من ثقلهم يدفعون بي إلى الموت).
وفي سنة ١٦٤٧ مات حموه مستر بوول، ولم يمض غير قليل حتى مات أبوه فحزن الشاعر عليه حزناً عميقاً، فقد كان يجله ويذكر دائماً ما له عليه من فضل، وترك له أبوه مالا تحسنت به حاله، فصرف تلاميذه لأنه استغنى عما كان يناله منهم من أجر نظير تعليمهم، ولأنه كانت تغمز على قلبه الرغبة في أن يعود إلى قيثارته، واستأجر ملتن منزلا جديداً أكثر سعة وأحسن موقعاً، وأمل أن يجد فيه ما ينشده من هدوء
ولكن شيئاً جديداً يقلقه ويخيفه وتتكدر له جوانب نفسه، وذلك أنه يوقن من تضائل بصره، ولقد بدأ ذلك الإحساس في نفسه منذ مستهل سنة١٦٤٥، فظنه يومئذ وهماً من الوهم، ولكنه اليوم تلقاء حقيقة راهنة، فإنه إذا قرأ في صباح تألمت عيناه وأحس بظلمة تغشى الجانب الأيسر من عيناه، حتى لتحجب عنه ما يكون في هذا الجانب من أشياء. . . فإذا أضيفت هذه الظلمة إلى ما يكتنفه من ظلمة اليأس مما ابتغى من إصلاح أمكننا أن نتبين مبلغ ما كان يعانيه يومئذ من عذاب. . .
فكر ملتن أن يعود إلى الشعر، ولكن الفجر الذي بشر به في نهاية كتيبه الأول سنة١٦٤١، والذي لمح إلى طائره الصداح لم ينبثق نوره بعد، بل لقد ازدادت حلكة الغسق من جزاء هذا الاختلاف الشديد في الدين والسياسة الذي فرق الناس شيعاً وأحزاباً وطوائف متباغية، ومن جزاء هذه الحرب المستعرة التي تزلزل الملكة، وهيهات أن يتغنى شاعر في ليل كهذا