بتلك الشراذم المنحطة، ذلك لأنها كانت تخشى على عقائدها وتعاليمها من أن تتسرب إليها مشارط الحرية الفكرية فتفسدها، ولذلك بادرت إلى تقييد الأفكار، وحجر العقول، حتى لا تكاد تبض بقطرة من العلم، وكانت تعاقب على كلُّ نظرية جديدة تصدر عن رجال الدين، ويعلن هؤلاء استنكارهم لها آناً بالموت حرقاً وشنقاً، وحيناً بالتنكيل سجناً وجلداً. . .
وكان من نتيجة هذا الحجر على الأفكار وهذا الجهل المطبق أن عم البلاء، وانتشرت الأوباء، وأخذ الطاعون يحصد النفوس حصداً ذريعاً.
قال أرديكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة:(عم بلاء المرضى فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما أن الجوع قد أفنى المرضى؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج إلا كثيرون هائمين على وجوهمم، فلما رأوا أن الأبرشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون. . .
وقيل: (وقد بلغ من سوء الحالة إذ أن كان الناس يتكالبون على أكل الميتة وإن أنتنت، ينبشونها، من تحت التراب، ويطلبونها من على المز ابل. . . لا يسألون عما تسببه من الأذى وتحمله من الموت، وكانوا يستشفون من أمراضهم ببول البهائم والتعاويذ والتعزيم). . .
وقيل أيضاً: (وكان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق، ليصنع خبزاً، لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً وهيئت حفراً ليسحب إليها المحتقرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصاعب أكبر، وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطرق كثيراً من الجثث ملكتها الشجاعة وأغواهم ضعف الناس فراحوا بها جمون الأحياء، أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل لعل الحقول تزرع ولا تبور. . .
وظلت أوربا تائهة في الظلال الجهالة: إلى ما بعد القرن العاشر، تغص بالغابات المخيفة التي تقطنها جماعات الوحوش، وأسراب الطيور الكاسرة (وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة. تحتاج الناس وتحصدهم، وكانت البيوت في باريس ولندن تبني من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مونقة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا