للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يعرفون النظافة، ويطرحون أحشاء الحيوانات وخفي البهائم وأقذار المطابخ في ساحت بيوتهم فتتصاعد منها روائح مؤذية، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وبعض الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف القذرة يقوم مقام الوسادة، ولم يكن للشوارع مجاور ولا بلاط مصابيح، قال داير: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة بين الناس، وساورتهم الأوهام، فأنحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب، وانتشرت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد مرض هرع رجال الدين إلى الصلاة، وأغلقوا أمر النظافة كرها لها، وكانت الأوبئة تفتك بهم فتكاً ذريعاً.

وإلى جانب هذا الفقر والانحطاط فقد انتشرت الفوضى، واضطرب جبل الأمن، وسادت اللصوص، وكثيراً ما كان يخطف السائر وينهب وهو ذاهب إلى بيته أو عمله ولو كان في رائعة النهار.

تلكم هي مدينة أوربا قبل العصر الحاضر، وتلكم هي حالة الشعوب الغربية يوم كان الإسلام هو المدرسة الوحيدة التي تهذب فيها الفكر الإنساني، وانبثقت منها أنوار الحضارة والمدينة.

جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والغرب لا يرى النور إلا من سم الخياط، وأما الجزيرة العربية فلم تكن بأحسن منه حالاً إذ كانت جاهلية جهلاء، يفترس القوى فيها الضعيف، ويعيد الناس مظاهر الطبيعة، ويقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويئدون بناتهم بلا رحمة، وما إن أظهر الله دينه على سائر الأديان حتى اخذ ينشر في الناس روح العلم والمدينة (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة: ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة، وبعد أن لم يكن في الجزيرة سوى بضعة عشر رجلاً يحسنون القراءة والكتابة، فقد أصبحت فيما بعد مثابة العلم وموئل المدينة، ومورد الحضارة.

لقد كان العلم أول ما فرضه لنبي على المؤمنين بعد نبذ الشرك، وقد حثهم على طلبه ولو في الصين، وأمر به الله في كتابه العزيز (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ومما يؤثر عن النبي في ذلك قوله (مداد العلماء أزكى من دم الشهداء) وبلغ من حبه للعلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>