حسب بعض الناس ليميل به عن السياسة يائساً منها كما يئس من غيرها، بل لقد كانت المعركة الدائرة هي أمله الباقي الذي ينبثق نوره فيما يكتنفه من الظلمات، ولذلك علق عليها من الرجاء مثلما يعلقه الغريق على آخر أمل له في النجاة!
ولملتن اهتمام بالسياسة من جهة أخرى، فهو خصيم البرسبتيرينز، ويود لو يذهب سلطانهم. وهو منذ حملتهم عليه أقرب إلى المستعلين مذهباً، بل وأكثر منهم استقلالاً، ولذلك فهو يتمنى نجاحهم ويتجه بقلبه إلى كرمول وجنوده، ويتضح موقفه من الفريقين في مقطوعتيه اللتين ندد أولاهما بالبرسبتيرينز مستكرهي الضمائر سنة ١٦٤٦، وامتدح في الثانية فيرفاكس أحد قواد جيش البرلمان سنة ١٦٤٨.
هكذا لبث ملتن يترقب ويجعل للسياسة همه، فلما تأكدت قوة كرمول والمستعلين بعد الحرب الأهلية الثانية، تبين أن الثورة توشك أن تصل إلى نهاية حاسمة، ورأى ملتن أن الملك وقد ظل على شديد استمساكه بالأسقفية، وأخذ يفاوض البرسبتيرينز والاسكتلنديين، إنما يتضح أمره يوما عن يوم أنه العقبة الكئود في سبيل التسوية، فلما أراد زعماء المستقلين أن يخطوا الخطوة التي يقضى بها الموقف، وهي طرد البرسبتيرينز من البرلمان ومحاكمة الملك، تبين ملتن أن الله استجاب دعاءه، وأن مصير وطنه ومصيره بسبيل أن تقررا، وعاودته حماسه إلى الكتابة، ومن ثم شرع قلمه.
وأخذ ملتن يعد كتيباً جديداً، وقد بدأه أن تبدأ محاكمة الملك، وفرغ منه قبل إعدامه بأيام، فكان صوته أول صوت ارتفع، والناس عالقة أنفاسهم دهشة ورهباً، ونشره في يناير سنة ١٦٤٩ وجعل عنوانه (حق الملوك والحكام).
وقد ذاع اسمه في أوربا بهذا الكتيب الذي برر فيه إعدام الملك، حتى إن زائري إنجلترا يومئذ كانوا يتطلعون إلى رؤية رجلين أحدهما أليفر كرمول رجل السيف، والثاني جون ملتن رجل القلم. وشاءت الظروف أن يشهر اسم صاحب الفردوس المفقود أول ما اشتهر في القارة بصلته بحادث إعدام الملك وجرأته في الدفاع عن هذا الفعل قبل أن يشتهر بالشعر، فلم يكن قد بدأ قصيدته الكبرى بعد، أما شعره الذي نشره قبل ذلك، فلم يقدره حتى قدره في إنجلترا إلا خاصة المثقفين، ولم يعرفه في القارة إلا قليلون.
ويعد هذا الكتيب من أكثر كتيبات ملتن متعة وأعظمها شأناً، فقد بسط فيه طائفة من المبادئ