بشاعر إذ قال:(ولن يعدم ذلك الفجر طائره الصداح، فلسوف يتغنى من بين هؤلاء القديسين الذي ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنعم الله، ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية، وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار)!
وها هو ذا الفجر قد أهل نوره. . . فأين طائره الصداح؟ أين لشاعر وأين لحنه العلوي؟ كيف ارتضى لنفسه أن يكون عمله أن يكتب الرسائل اللاتينية، وأن ينقل ما يرد منها إلى الإنجليزية، وان يرد على الشانئين والحاقدين على الدولة فيعود إلى عنت الخصومة وشغب الخلاف. . .
أجل، كيف آثر الشاعر على الخميلة قاعة الحكومة؟
ذلك ما لا يسعنا إلا أن نحس حياله من العجب قدراً كبيراً
وكان ملتن يحس كما أسلفنا تضاؤل بصره، ويشعر أن عليه إزاء ذلك أن يقصد كل القصد في استعمال ناظريه، وكان ذلك وحده كافياً نرى لأن يرفض هذا المنصب الذي يتطلب طول النظر في الرسائل ما يكتب منها وما يترجم، وفي غيرها من الأوراق التي تحتاج فيها الحكومة إلى معونته ورأيه.
ولكنه كما رأينا قبل المنصب، ويرى بعض المؤرخين أن قبوله إياه على شدة حنينه إلى الشعر وكثرة ما يهجس في نفسه منه، وحاجة ناظريه إلى الراحة، هو ضرب جديد من التضحية أشبه بتضحية الأولى حين هجر الشعر على رغمه سنة ١٦٤١ استجابة منه لداعي الحرية، فقد كان يعتقد ملتن أن مساهمته ولو بقد صغير في بناء صرح الحكومة الجديد عمل ينطوي على معنى الوطنية، وبخاصة أنه كان يؤمن يومئذ أن الحكومة الجديدة وقد جاءت نتيجة لذهاب الطغيان لا بد أن تظل نصيرة للحرية، ولقد أشار إلى هذا المعنى بعد ذلك بقليل في أحد كتيباته قائلا: إنه تقدم عن طيب خاطر ليخدم بلاده، حينما طلب إليه ذلك القائمون على الأمر، وأنه لم يطلب على ذلك أجراً، وحسبه من الأجر ارتياح ضميره ورضاؤه عن نفسه، والحق أن المال لم يكن له دخل في قبوله ذلك المنصب، فإنه وإن كان ملتن فقيراً، فقد كان القليل من المال حسبه لما تتطلبه أكلاف عيشه وهي يومئذ قليلة، وكان لا يعوزه هذا المال القليل.