للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أردنا أن نحلل عملية التشبيه إنه شعر للبنفسج بجمال فترجم عنه، ونحن نفهم أن الجميل قادر أن يلفت معنى وراء وجوده المادي ولكن الشاعر لم يتخطى الوجود المادي نظر إليها على أنها زهرة لها حجمها الخاص ولونها الخاص، وقال كلاما شرح به هذا الوضع المادي (كأوائل النار في أطراف الكبريت). أولا: ما هو الشيء المعنوي الذي لفتت إليه الزهرة الجميلة؟ لا شيء. زهرة البنفسج هذه يمكن أن نحس أمامها بنوع من الانصراف عن التنبه واليقظة، فإذا شبهتها بإنسان حالم تكون قد تذوقت للون طعما خاصا من طعوم الحياة؛ وبذلك تكون المادة قد أفلحت في أيجاد المعنى. . أما وصف اللون بلون أخر فلا شيء. ثانيا: نلاحظ أن الشاعر نقلنا من جو فسيح إلى جو خانق فليست هنا قوة في الإحضار، وإنما هي غفلة وسوء تصرف).

قد يبدو هذا الكلام مقنعا ورائعا لأول وهلة، ولكن يجب أن نتذكر حقيقتين:

الأولى - أنه يدرس التشبيه؛ ومعنى ذلك أن يقف عند تشبيه الشاعر. هل أصاب أو اخطأ في إلحاق هذا اللون بذاك. أما أن الشاعر لم يلتفت إلى ما يهيجه البنفسج من المعاني في النفس والتفت إلى شيء مادي بحت فهذا لا دخل له في صحة التشبيه أو فساده.

الثانية - أن البيان يبحث عن الأساليب الفنية التي تؤدي بها المعاني، وما دام يبحث عن الفن فهو يجده في المعاني البحتة ويجده كذلك في الماديات البحتة، وليس أحدهما بأولى من الأخر في إبراز الفن البياني فيه، وعلى ذلك فهم علماء البلاغة ما ورد من هذه الأمثلة. ولعلنا نأتي بالقول الفصل حين نسوق ما قاله أمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا الموضوع بعينه (وهكذا إذا استقريت وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان اشد كانت إلى النفوس اعجب وكانت النفوس لها اطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية اقرب، وذلك موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح والمتآلف للنافر من المسيرة، أنك ترى بها الشيئيين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله: ولا زرودية. . . الخ اغرب واعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق؛ لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف، بلهب نار في جسم مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف ومبني الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يمهد ظهوره منه، وخرج من

<<  <  ج:
ص:  >  >>