للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلاّ، حتى مع المتوكل على الله، ذلك الخليفة المعطاء الذي أدناه من مجلسه وأغرقه في طوفان من حبائه، وأختاره نديما على بساط الشراب إلى أن لقي حتفه وهو في ندوته يجاذبه أطراف السمر مع الفتح بن خاقان، وحين حلت الكارثة قام الوزير الشجاع بما يفرضه عليه واجب الشهامة والرجولة ففاضت روحه قبل سيده، وفر البحتري إلى حمام مهجور بقصر القاطول فاختبأ فيه وبعد ذلك جاء ليكذب على الناس فيقول في اختلاق ذميم:

أدافع عنه باليدين ولم يكن ... ليثني الأعادي اعزل الليل حاسره

ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي ... درى الفاتك العجلان كيف أساوره

مع أن البحتري لو كان صادقا في قوله لصرع لساعته كما صرع الفتح بن خاقان شهيد المروءة والوفاء! ونحن لا نبالغ في مؤاخذة البحتري على فراره هذا فلعله ممن لا يلقون بأيديهم إلى التهلكة. ولكننا نبالغ في مؤاخذته على هجاءه المتوكل بعد مصرعه برغم ما غمره به من خير عميم، فقد قال في مدح المنتصر قاتل المتوكل العاق:

حججنا البلية شكرا لما ... حبانا به الله في المنتصر

تلافي البرية من فتنة ... أظلهم ليلها المعتكر

ولما ادلهمت دياجيرها ... تبلج فيها مكان القمر

ولو كان غيرك لم ينتهض ... بتلك الخطوب ولم يقتدر

رددت المظالم واسترجعت ... يداك الحقوق لمن قد قهر

وآل أبي طالب بعدما ... أذيع بسربهمو فابذعر

ونالت أياديهمو جفوة ... تكاد السماء لها تنفطر

بقيت أمام الهدى للهدى ... تجدد من نهجه ما اندثر

ومعلوم أن المتوكل هو الذي غالى في قهر آل أبي طالب!! فهل يليق أولا أن يمدح قاتله؟! وهل يليق ثانيا أن يعرض بهجاء ولي نعمته الأول فيقول أن الفتنة أظلمت دياجيرها في عهده وأن الهدى قد أن دثر على يديه؟ إن هذا لغريب.

على أن البحتري لدناءة اصله، وخسة طبعه لم يلبث أن قلب للمنتصر - ولي نعمته الثاني - ظهر المجن، فهجاه هجاءا مراً بعد مقتله، ثم أن قلب إلى الخليفة الجديد المستعين بالله يتزلف إليه ويمدحه حتى يستنزف أموال خزائنه فهو يقول متظاهرا بالولاء والإخلاص:

<<  <  ج:
ص:  >  >>