للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والجسد الملقى على كرسي سليمان هو المستعين بالله الذي قربه من مجلسه وغمره بنواله. ولما دارت الدوائر على المستعين وقتل بقصره تحت جنح الظلام، اخذ البحتري يضحك لآماله، وسار من فوره إلى المعتز بالله معتمدا على ما كان بينهما من مراسلة خفية ثم مدحه بقصيدة طويلة عرج فيها على المستعين - ولي نعمته الثالث - فسلقه بلسان حاد ولصق به جميع المثالب حتى جرده من إنسانيته فهو يقول في هجاءه:

متى أسل الديان أن تصطفى له ... عرى التاج أو تثني عليه عصائبه

وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه

بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه

ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدئ فيواثبه

إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه

تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا ينازيه وطورا يشاغبه

رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعرى من برد النبي مناكبه

وقد سرني أن قيل وجّه مسرعا ... إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه

إلى دسكر خلف الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه

ثم أخذ يكرر هجاءه ثانية وثالثة ورابعة وما ذلك إلا ليحوز قبول المعتز بالله! فيا لضيعة الوفاء. . .

ولقد كان مصير من سبقه من الخلفاء في هذا العهد الأحمر الذي فاضت به دجلة بدماء الخلفاء، حتى كان تعيين الخليفة حكما عليه بالإعدام، فهو ينتظر تنفيذه بالليل، فإذا اخطأه ترقبه بالنهار؟! ولعمري أي خطأ شنيع وقع فيه المعتصم حين اصطفى هذه الشرذمة السافلة من غوغاء الأتراك ليدفع بها سلاطة الفرس على قلة شرهم - فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم!.

وما أن عرف البحتري مصرع المعتز حتى توجه كعادته إلى غريمه الجديد، يمدحه ويستدر عطفه. وما في ذلك عيب، ولكن العيب كل العيب في تعريضه الشنيع بهجاء المعتز - ولي نعمته الرابع - محاولا أن يشفي بذلك غلة الممدوح، ولو طال أمد البحتري إلى الآن لوجدناه يحرص على تمثيل هذا المنظر القبيح مع من يتعاقب على الدول من ملوك

<<  <  ج:
ص:  >  >>