بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة، ولم يكن ذلك فيه انتفع بقوله، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المفرع أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. وقال أبو خالد. فضحكت من قوله وقلت: والله هذا مقال من لا يموت حتف أنفه!).
بهذه النفسية الحانقة على البشر كان يعيش، وبهذا المنظار الأسود الذي يرى به الناس صعاليك أوغادا كان يرى كثرة مباشريه ومعاصريه، فكيف يموت حتف انفه؟
لقد تحققت كهانة صاحبه، فقد مات مقتولا بعد أن طارده الخلفاء والوزراء، وانتهت حياته على يد اتباع مالك بن طوق أمير عرب الشام في قرية من القرى الأهواز اغتالوه بها، وانتقموا لعداته وهم كثرة منه.
وفي دعبل صفة أخرى غير الشجاعة، تلك هي الوفاء الصادق الذي لا يعرف فيه مينا، والإخلاص الراسخ لا يشوبه خداع أو ختل، وفاء لآل علي على ضعفهم، ونصرهم بشعره طوال حياته على غير خلق الشعراء، وليعذرنا سادتنا شعراء عصرنا الذين تستولي عليهم عواطفهم، وتتملكهم أهواؤهم، فمن اجزل لهم صلته حمدوه ومدحوه، ومن قبض دونهم يده نبذوه وذموه، وله في ذكرهم والإشادة بهم والتنبيه على شأنهم ووجوب إعظامهم قصائد رائعة وأبيات خالدة تدل على أن نظمه فيها كان صادرا عن شعور حار ووجدان متدفق وعاطفة حافزة، بل تدل على أنه كان رجل عقيدة ورأي وإيمان ومذهب، لا تأخذ منه زعازع أو أعاصير، ولا يبلبل إيمانه مآسي ومحن، ومن قصائده الباقية على الدهر قصيدته التي وهب له من اجلها على بن موسى الرضا عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه أريد على بيعيها بثلاثين ألف درهم، فأبى أن يساوم فيها، فقطع الراغبون فيها عليه طريقه ليأخذوها قسرا فقال لهم:(إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم). فدفعوا له فيها المبلغ السالف، فحلف إلا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه كما واحدا، فكان بين أكفانه، وأول القصيدة هو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات