وفي هذا الدور أيضا جمع المأمون بعض حكماء عصره، على صنعة الصورة التي نسبت إليه ودعيت بالصورة المأمونية صوروا فيها العلم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي احسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس. وقد وضع له علماء رسم الأرض - وكانوا على ما يرويه الزهري سبعين رجلا من فلاسفة العراق، كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على التعرف إلى البلاد التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وعنى بالطبيعة والرياضيات فوق عنايته بالطب ومعرفة العقاقير والنبات والحيوان، وفتح المأمون باب العقل والتفكير الحر على مصراعيه في جميع البحوث.
وفي عصر المأمون أيضا تأسست أول مدرسة للترجمة في العلم العربي، وكانت تتألف من حنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين، وابن أخته حبيش الاعسم الدمشقي وغيرهم. وقد أسس المأمون هذه المدرسة في بغداد، فقامت خير قيام بنقل جميع المتون اليونانية المشهورة إلى اللسان العربي، وكانت هذه المدرسة أيضا تشرف على إصلاح جميع ما ينقله الغير إلى اللسان العربي. ومن الكتب التي ترجمها وعلق عليها حنين بن اسحق بأمر الخليفة المأمون: كتاب الإساغوجي لفرفوريوس وارمانوطيقا لأرسطاطاليس، وجزءا من الاناليطيقا وجزءا من الميتافزيقا، وتلخيصات نقولاوس الدمشقي وتعليقات الاسكندر الافروديسي والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وديوشقورس وبولس الاجانيطي، وأبقراط.
ويروى أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل. وقال أبو سليمان المنطقي انو بني شاكر، وهم محمد واحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة: منهم حنين بن اسحق، ثابت بن أبي قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.
وكان يتمتع حنين بن اسحقبمكانة سامية عند خلفاء بني العباس، إذ احلوه منزلة سامية من الإجلال والاحترام وكان أبوه صيدليا في جند يسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل ابن بختيشوع واشتهر في زمن المأمون وعاش إلى زمان المتوكل.