اختيرت بحيث تمحو الأثر الذي يخلفه جمالها العجيب، وتحط من سموه وتجعله عادياً مألوفاً.
في الصباح التالي كنت جالساً على ظهر السفينة، كما أنا جالس الآن معك، فوجدتني مجاوراً لهما. وبعد أن بعثنا برهة بكتبنا عبثاً يشابه في اضطرابه حركة السفن واهتزازها - حقاً إن هناك رابطة قوية بين دوار البحر والكتب المطبوعة - بدأنا نتحدث قليلاً. وحين تحدثا لم يتركا في النفس أثرا غير عادي، وكان صوتها هادئاً مليئاً بالاهتمام ثابت النبرات وإن كان فارغاً بعض الشيء، ولم يكن به أي عنصر غريب من المأساة أو من النبوءة. ولكن برغم ذلك عرفت، بل شعرت وأحسست، بأنها كانت تصلها بتلك العناصر الغريبة صلات وثيقة. تجاذبنا أطراف الحديث ساعتين أو أكثر، وكان البحر قبل ذلك هادئاً كالبساط، ولكنه بدأ في خلال محادثتنا تظهر عليه علائم التغير الأكيدة. وكأنه كان يحاول اختبار قواه ليستخدمها في مناسبة مقبلة. فصفرت في جنباته رياح هينة، وأخذت السفينة هزةٌ أثارت المزاح والضحك المعهودين بين الشبان من المسافرين الذين كانوا يتنقلون على ظهر السفينة في جلبة، وضاعفت من حماسة اللاعبين في لعبهم المختلفة، فازدادوا مرحاً، حتى يخفون ما شعروا به من بداية التقزز والغثاثة. . . تسألني عم كنا نتحدث؟. . . قد نسيت، ولكنها كانت أشياء مختلفة، من السياسة، والأسفار، والكتب الكتب البريئة المملة.
ولكن كلما مرت دقيقة ازداد التحدث صعوبة، إذ ارتفعت بين آونة وأخرى أصوات الأشياء المتصادمة، ازدادت الريح دوياً، وإن كان الركن الذي انتحيناه محمياً هادئاً بعض الشيء. . . أخبرتني أنهما كانا ذاهبين إلى بونس أيرس، حيث يمكثان أسبوعاً، ثم يعودان إلى وطنهما مباشرة. فإن المستر روفني - وهذا اسم زوجها - كان مريضاً، وقد نصحه الطبيب بالقيام بهذه الرحلة البحرية. وقال الزوج:(لقد حاولت أن أثني زوجتي عن المجيء، ولكنها ألحت. أنا لم أغرك بالمجيء يا حبيبتي، أليس كذلك؟ لقد بذلت كل جهدي لمنعك).
كلا، لست أستطيع أن أتذكر كل المحادثة بجلاء، وإنما أتذكر شيئاً أو شيئين من هذا القبيل. أتذكر المسز روفني تقول، بصوتها الحازم الذي لا يقبل أي سخف أو عبث، والذي كان مع ذلك فارغاً بدرجة عجيبة، ذلك الصوت الذي نطق بالأشياء كأنه لا يعنيها - أتذكرها تقول: