للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الغشوم، والتفت المأمون حوله فإذا سكون شامل وصمت رهيب؛ وإذا أعداؤه ما بين قتيل قد كُفي شرّه، أو هارب يتلمس التخفّي ويطلب أسباب النجاة، ولم تنشط نفس المأمون إلى ورود بغداد واعتلاء عرشها الدامي إلا بعد انطواء ست سنين على مقتل أخيه (من ١٩٨ إلى ٢٠٤ هـ)، وكأنّما كانت نفسه قد ملّت القتل وبرمت بالقتال، وامتلأ قلبه بالسكون وبالطمأنينة، وبالفلسفة والتأمل الصامت؛ فجنح إلى العفو والمسامحة، وشغل عن كثير من مطامع الحياة وأهواء السياسة والمجتمع، ولنصرف بجهده إلى العلم ومدارسته وتشجيع المشتغلين به، وحثّهم على التوفّر عليه، كما هو معلوم من سيرته. . .

وكان عفوه عمّن دخلوا في فتنة الأمين شاملاً، واتبّع ذلك عفوه عن عمّه إبراهيم بن المهدي الذي ادّعى الخلافة (عام ٢٠١ هـ) قبل مقدم المأمون إلى بغداد، وكان سبب قيام ابن المهدي في بغداد ما أجمع عليه العباسيون من خلع المأمون عندما اختار لولاية عهده علياً الرضي بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق من العلويين وظهر الفضل بن الربيع وقتئذٍ - وكان مختفياً منذ مقتل الأمين - فانظم إلى ابن المهدي متحدّياً المأمون للمرة الثانية، وكان من العجيب أن يشمله العفو رغم كل ذلك. ولما مثل بين يدي المأمون في ذلّته وانكساره قال له: يا فضل، أكان من حقّي عليك وحقّ آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ فقال: يا أمير المؤمنين: إن عذري بحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا حفّته العيوب وقبّحته الذنوب؟ فلا يضق عنّي من عفوك ما وسع غيري منك، فأنت كما قال الشاعر فيك:

صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو ولم يعرف من الناس مجرما

وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكُره مسلما

فأسبل المأمون عليه توب عفوه. . .

وعفا عن اسحق بن العباس، وكان ممن أجلب مع ابن المهدي، وعفا أيضاً عن ذوي قرابته من آل عبد الملك بن صالح بعد أن كان قبض ضياعهم. فردّها عليهم وقضى حوائجهم.

بل لقد هجاه دعبل الخزاعي الشاعر بداليته التي يقول فيها:

أيسومني المأمونُ خطة خسفِهِ ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد؟

فلم يمدّ إليه يداً بسوء. ثم عمل دعبل أبياتاً في إبراهيم بن المهدي بعد العفو عنه، أوّلها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>