للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نعَر (ابن شكلة) بالعراق وأهله ... فهفا إليه كل أطلسَ مائق

فشكاه إبراهيم إلى المأمون. فقال له: لك أسوة أبي، فقد هجاني واحتملته، وقال في: أيسومني المأمون. . . وأنشده الأبيات. فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلاّ عن فضل علمك، ولا يحلم إلاّ اتباعاً لحلمك.

وهجا الحسين بن الضحاك المأمون بقصائد، ثم دخل عليه في بغداد مادحاً، فعاتبه ووبخه؛ ثم عفا عنه، وقال: جعلت عقوبة ذنبك امتناعي عن استخدامك.

كانت فتنة الأمين والمأمون شديدة الوقع في نفوس العباسيين جميعاً، وضاعف من وضعها مقتل الأمين الذي يعدّ الحادث الأول من نوعه في تاريخهم، وقد تلا ذلك فترة سكون وسلام داخلي زينها المأمون بعفوه وتسامحه، وبلغ من تماديه في هذا الخلق الكريم أن كان يقول: أما لو عرف الناس ما لنا في العفو عن اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات!

وكأنما كان يسمع كلامه هذا أحد البغداديين حين أثنى عليه بقوله:

مازلتَ في البذل والنوال وإط ... لاق لعانٍ بجرمة غَلقِ

حتى تمنّى البراء انهموا ... عندك أسرى في القيد والحلق

ولقد أتى على المأمون حين من الدهر كان لا يثق فيه بالسلامة من أعدائه فضلاً عن التغلب عليهم. فلمّا توطّد له الأمر وتمّت عليه نعمة ربه؛ جعل من العفو عن أعدائه شكراً يتقرب به إلى الله

وقد ألم بهذا المعنى في كلامه غير مرة. . . كان في مجلسه من أصحابه يوماً حين أنهلت عيناه بالدمع، فلمّا سُئل عن سبب بكائه قال: ما ذلك من حدث، ولا لمكروه همت به لأحد، ولكنه جنسٌ من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمها عليَّ وعلى أبويَّ من قبل. أما ترون ذلك الذي في صحن الدار - يعني الفضل بن الربيع - كان في أيام الرشيد، وحاله حاله، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشأن؛ وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أداريه خوفاً من سعاته وحذراً من أكاذيبه. فكنت إذا سلمت عليه فرد عليّ، أظل لذلك فرحاً وبه مبتهجاً. . .

وعفا المأمون عن سعيد الخطيب وقال عنه - وقد وقف على رأسه يمدحه ويشيد بسيرته -: هذا الخطيب كان بالأمس يقف على المنبر الذي بازائي مرة، وعلى المنبر الغربي مرة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>