ويستبين كثير من صفاته ككاتب أحسن ما تستبين في كتابه هذا (الدفاع الثاني) فالرأي مجتمع على أنه من خير ما كتب ملتن إن لم يكن خير ما كتب جميعاً، ويقول ذوو الخبرة باللاتينية ممن تحدثوا عنه إن ملتن أشرف على ذروة البلاغة فيه، وقد ضمنه جانباً من حياته الشخصية، وتعرض فيه لأقوى شخصيات الحكومة الجمهورية وأورد طائفة من آرائه الأساسية في السياسة والحكم، وأنذر في ختامه بما يخاف، وأفصح عما يتوقع إن لم يأخذ بنصحه المعاصرون.
أسرف ملتن في التفاخر بحكومة كرمول وما أدته إلى إنجلترا من صنيع، وما كان لها في قضية الحرية من مواقف مشهودة، وما أتيح لها من نصر فيها لم تشهد الدنيا مثيلا له، وما كان إلا مردداً بكلامه هذا ما سبق أن ذكره في الرد على سلامسيس، وكذلك شأنه في امتداح رجال ذلك العهد وما قدمت أيديهم من خير، وأمعن ملتن في الذهاب بنفسه وكان شعوره بأنه قاهر سلامسيس يدفعه إلى الغلو في ذلك حتى لقد أشبه أن يكون غلوه شططاً، وكان كلما تذكر ما رماه به خصمه من مطاعن يعظم غلاؤه فينسى أنه بذلك يبدي ما كمن في نفسه من غيظ.
يقول لمن ظن أنه خصمه:(تتساءل من أكون ومن أين جئت وتزعم أني في ذلك يحيط بي الشك، كذلك أحاط الشك بهوميروس من يكون وأحاط بديموستين. . .) ثم يسرد ملتن تاريخ حياته ويعدد مآثره ومفاخره، ويدفع عن نفسه ما نسب إليه، حتى ما عير به من فقد بصره فلم يدع هذا بغير رد فأشار كما سلف القول إلى براءة عينيه في مظهرهما مما يعيبهما حتى ليخالهما من يراهما مبصرتين كأحسن ما يكون الأبصار وأتمه، ونجد فيما يقول ملتن عن نفسه مثلاً من أحسن الأمثلة لما يلحق الرجل القوي من ضعف إذا عنى من الأمور بما لا يتفق وسامي منزلته وعظيم خطره؛ والحق إن شدة إحساس ملتن بذاته هو الذي يجره إلى مثل هذه المواقف. . .
ويرضى ملتن لنفسه فضلا عن هذا أن يوجه المطاعن إلى مورس وكان خليقا أن يدرك وهو المسرف في كبريائه وغلائه أن الجملة من مثله على مورس وأشباهه إن هي إلا ضرب من المهانة وإلا جاز أن يتداخل المرء إعجاب بقوة النسر أو الصقر إذا انقض على عصفور وديع، أو ببطولة الفارس إذا جندل غلاماً لم يدر ما الدرع بعد ولا ما السيف!