للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

استدلوا - بما أسلفناه - على حرصه على التقيد بحرفية ما يسمع، تلكم الطرفة التالية:

سأله سائل: ترى بعد كم من الزمن أبلغ المدينة؟

فقال له (تل): سر في طريقك.

فحسبه الرجل لم يسمع، فأعاد عليه السؤال مكرراً رجاءه بصوت مرتفع. فأجابه (تل) نفس إجابته الأولى. فغضب الرجل وحسبه يهزأ به. فصرخ فيه: أجب عن سؤالي أيها الغبي؟

فقال له: (سر في طريقك) فتركه الرجل، وسار في طريقه وهو يكيل له اللعنات، والغضب آخذ منه كل مأخذ، ولم يكد الرجل يبتعد عنه قليلاً حتى صاح به (تل) أن يتمهل ربما يفضي إليه بأمر يعنيه. فوقف الرجل متعجبا من غرابة أطوار هذا الرجل. وسأله: (ماذا تريد؟).

فقال له في هدوء الفيلسوف: (إذا سرت على هذا النهج بلغت المدينة بعد ساعتين).

لم يفهم الرجل أول الأمر ما يعنيه (تل) بقوله: سر في طريقك وحسبه يتعالى عن أجابته ويرغب في التخلص من رؤيته، ولكنه أدرك أخيراً أن صاحبه على صواب، فلم يكن في وسعه وهو يتوخى الصحيح في أجابته أن يعرف مدى الزمن الذي يستغرقه حتى يبلغ المدينة قبل أن يتعرف من مشيته مدى أتساع خطوته.

ألم يقل أبو نواس: (عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء) ثم، ألم يقل المتعمقون: إن لكل مسألتين وجهين على الأقل؟ فها هو صاحبنا يأخذ في فهم ما يسمع وما يقول بالوجه الثاني للمسألة، فلا يبعد في حاله عن الصواب. ورحم الله القائل:

خذا وجه هرش أو قفاه، فإنما ... كلا جانبي هرش لهن طريق

ومن عجيب المصادفات أن تجني الحرفية والتشبث بالمشكلات اللفظية على صاحبنا بعد مماته، كما جنت عليه أثناء حياته. فإن لقبه: (مرآة البومة) مؤلف - كما ترون - من لفظين: (مرآة) و (بومة)، وكلمة مرآة تكتب بالألمانية (سيجل وتذكرنا حروف رسمها كلمة (سجنجل) ومعناها - فيما يعلم القارئ - مرآة، وهي ترجمتها بالعربية.

ولكن حروف سييجل، إذا لفظها الألماني قلب الياء الأولى باء، فنطقها (شبيجل) دون أن يثبت هذا القلب في كتابتها. وقد استخرج الفرنسيون منها لفظاً يجمع بين الكتابة والنطق، وتمسكوا بالحرفية في كليهما، فأضافوا إلى بنية الكلمة المكتوبة حرف (الباء؟) الذي ينطق

<<  <  ج:
ص:  >  >>