٣ - ونحن لا نأخذ كلام المتقدمين قضايا مسلمة دائماً، كما لا نهتم أذواقهم ولكنا نقبل منها المقبول، نرفض ما يتبين أنه ضعيف واهٍ. وليس كلامهم الذي سقناه بالكلام الضعيف الواهي ولكنه حسن جميل يعتمد على الذوق قبل كل شيء، فأنت حين تسمع ذكر المشبه تستشرف لما يجيء بعد وتخطر في ذهنك أكثر التشبيهات القريبة؛ فإذا جاء الشاعر أو الناثر بتشبيه بعيد نادر وقع من نفسك موقعاً حسناً، وعرفت مقدار ما عانى الشاعر في استخراج هذا التشبيه. والتشبيه فن، وهو يكون في الماديات البحتة كما يكون في المعنويات، وتلمس المعاني وراء كل تشبيه إنما هو تعنت وحذلقة.
أين المعاني النفيسة وراء قول طرفة:
كأن حدوج المالكية غدوة ... بقايا سفين بالنّواصف من دد
أو قول امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمّل
أو قول المهلهل بن ربيعة:
كأنة غدوة وبنى أبينا ... بجنب عنيزة رَحَيَا مدير
أو قوله:
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين حالَيْها غرور
الخ. . . الخ.
وتكذب على هذه التشبيهات بما شئت فأنك تستطيع أن تحيطها بكثير من المعاني، ولكنها بعد من عندك وصنعك، ولم يفكر فيها الشاعر ولا إليها قصد.
يختلف معي الأستاذ شاهين في سر إعجاب جرير بن الخطفي بتشبيه عدي بن الرقاع في بيته:
فهو يرى أن سر إعجابه أن هذا التشبيه حضري وعدى بدوي جلف جاف، وأنا أرى أن سر الإعجاب أن الشاعر استطاع أن يأتي بمشبه به موافق كل الموافقة للمشبه. ثم جاء به من كان بعيد لا ينتظر أن يهتدي إليه.
غزال صغير له قرن صغير في طرفه سواد أراد الشاعر أن يلتمس له شبهاً وجرير حاضر