للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حجة بحجة فليس هذا شأن الأستاذ مع تلاميذه، وما منهم إلا من يكبره ويخفض له جناحه ويغض عنده من صوته، وإن كثيراً منهم ليتنافسون من يكتب له إذا أملى ومن يقرأ له إذا طلب بحثاً من البحوث، ومن يقوده ويأخذ بيده ليمشي ساعة في الحدائق القريبة، وكلهم بذلك مغتبط أيما اغتباط.

وكان يزوره في منزله كثير من كبراء الأجانب ممن يهبطون إنجلترا، وكانوا يسمعونه عبارات التجلية والإعجاب، ويذكر اوبري أحد مؤرخي حياته في ذلك قوله (إن الحافز الوحيد الذي كان يحفز فريقاً من الأجانب لزيارة إنجلترا كان في الأكثر رؤية أليفر كرمول حامي الجمهورية ومنستر جون ملتن، وكانوا يرغبون أن يروا بيت الشاعر والحجرة التي ولد فيها فقد كان الإعجاب به خارج إنجلترا أشد منه في موطنه كثيراً).

وكان يعينه في كثير من شؤونه إلى جانب أصدقائه أبنا أخته. أما بناته الثلاثة فكن صغيرات فقد تركتهن أمهن حين ماتت منذ ثلاث سنوات أي سنة ١٦٥٢ وكبراهن في السادسة من عمرها ووسطاهن في الرابعة وصغراهن بنت شهر واحد.

وفي سنة ١٦٥٦ تزوج ملتن بزوجة ثانية، وقد جاءت كما أحب رجاحة عقل وصدق عاطفة، وأستثنى الشاعر نسيم المودة والرحمة بين يديها، وأحس كأنما يحيي حياة جديدة على الرغم مما يحيط به من ظلمة، وكان كمن ألقت به الصحراء المجدبة إلى واحة ظليلة؛ ولكنه لم يلبث في واحته هذه أو جنته إلا خمسة عشر شهراً ثم نكبته النكبة في زوجته فكأنما كان يكيد له الدهر حين أذاقه النعيم فما كان ذلك منه إلا ليعظم في نفسه الهول الجحيم وماتت الزوجة كسابقتها في سرير الوضع وتركت له كذلك أنثى، لم تعش بعد أمها إلا نحو شهر؛ وفزع الشاعر إلى قيثارته يخفف عن نفسه ما يعالج فيها من حزن، وكأنه من فرط ما في جوفه من حريق يحس كأن الجحيم نفسها تتنفس على كبده. قال الشاعر المحزون: (رأيت فيما أرى النائم أن قديستي التي تزوجت بها أخير قد أحضرت إلى من القبر كما أحضرت أليستس التي أرجعها الابن الأكبر لجوف إلى زوجها الذي امتلأ فرحاً وقد نجاها ابن جوف من الموت بقوة ولو أنها ظلت شاحبة هزيلة، ولكن امرأتي جاءت كما لو أنها اغتسلت مما يتركه الوضع فتخلصت بذلك من التطهر وفق الوضع القديم؛ ونظرت فإذا بي كأني املأ منها عيني في الجنة بغير عائق ما، وقد خطرت في ثياب بيضاء نقية

<<  <  ج:
ص:  >  >>