مهما اختلف في حقيقتها وفي تفسيرها تزكو وتقوى وتقدر على أداء وظيفتها إذا صح الجسم وقوى واستراح، وتضعف وتخبو وتعجز عن القيام بعملها إذا مرض الجسم أو تعب أو تعجز. . . وهذه حقيقة هي اليوم فوق مذاهب الشك، وفي استطاعة الرجل العادي أن يعلم صدق هذا بالملاحظة والاستقراء. . .).
ونحن نقول إن هذه حقيقة لا شك فيها.
ولكننا نقول إنها ليست كل الحقيقة، أو ليست بالحقيقة التي تستغني عن الرجوع بها إلى جملة الحقائق في الملكات الروحية والجسدية.
ولعلنا نستعجل الغاية التي نرمي إليها بالإشارة إلى حقيقة أخرى مجسمة لا شك فيها. فما القول مثلاً في الإنسان الذي يقبل على الجسد وحده فيجعله أصلب من الفولاذ وأقدر على حمل الأثقال وجرها من الفرس والبعير؟ أيقال إن هذا الإنسان قد زاد قوة الروح بزيادة قوة الجسد؟ أيقال إنه مثل يحتذيه كل إنسان ولا يصيب الأمة نقص في الملكات إذا اقتدى به كل فرد من أبنائها؟
لا يقال ذلك، ولا يقال مع ذلك إنه مثل ضار وخيم العاقبة على أبناء الأمة، بل يقال إنه لازم ومطلوب ومعقول، وأن (القصد الحيوي) في تربية الإنسانية يسمح للرياضة البدنية أن تصطفى لها أفراداً من هذا الطراز، ويسمح للرياضة الروحية أن تصطفى لها أفراداً من طراز آخر، ولا تسمح لهذه ولا لتلك بتعميم حكمها على جميع الآحاد.
هذا (القصد الحيوي) هو الحقيقة الكبرى التي تقابل تلك الحقيقة المبسوطة في كتاب الأستاذ.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد.
ولكنها ينبغي أن تنال. فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصيص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعاً في التحصيل، وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعاً على حد سواء.
ولا يقتصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكننا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.