للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فلا قيمة للظن والاستنتاج والاعتماد على قرائن واهية، فما كل من ينظم مقطوعة أو قصيدة لملك أو حاكم يكون ذا صلة بذلك الملك أو ذلك الحاكم، وأنا أميل إلى هذا الرأي وأزيد عليه أن ملتن رجل ذو كبرياء، وقد عرف عنه أنه كان قليل الصلة برجال الحكومة أنفة منه وتعففاً أن يقال به حاجة إلى أحد، كما أنه كان شديد الاعتداد بنفسه والحرص على كرامته، فلم يك لذلك حديث مجالس ولا كان ممن يحسنون فن التقرب والتودد الذي هو في حقيقة الأمر ضرب من الملق وإن تعارف أهله على تسميته بالكياسة أو اللباقة، ولذلك لم يتقرب ملتن ولم يتودد وأن كان في دفاعه عن الحكومة بكتبه شديد التحمس فياض الثناء؛ ولم يك تحمسه وثناؤه إلا شعوراً وطنياً من ناحية وأمراً يقتضيه الدفاع والمغالبة من ناحية أخرى. وكان ملتن شاعراً ولم يك للشعراء عند رجال الحكومة من البيورتانز ما ينبغي أن يكون لهم من رفيع المنزلة إن لم يضعهم الشعر في موضع الكراهية لهم والاستخفاف بأمرهم، هذا إلى أنه كانت للرجل آراء في الطلاق وفي الدين عده الناس فيها مسرفاً أو به جنُّة، وكان يحس ملتن كثيراً من الفتور والبرود عند من تضطره الظروف إلى لقائهم من كبار رجال الدولة، وهو رجل في أنفه ورم وفي نفسه أشد من الكبر على كل ذي كبر، ولذلك تجافى هؤلاء الكبراء، ومن كان هذا شانه معهم كانوا خليقين أن يصرفوا بحيلهم نظر كرمول عنه إن أتجه إليه أن لم يعملوا على الكيد له والوقيعة له، أما هو فلم يسع من جانبه إلى التقرب أو تودد؛ قال ملتن يرد على رجل التمس وساطة في أمر (يؤسفني أنني غير قادر على أن أفعل ذلك، فإن معرفتي ضئيلة بأولئك الذين في أيديهم القوة تناسب في ضآلتها حرصي على أن ألزم بيتي في الأكثر، وأني لأوثر أن ألزمه).

وظل ملتن بعد موت كرمول في منصبه يعينه فيه مساعد، ولكنه كما قلنا كان فيما يشبه العزلة فقلما شغله من ناحية منصبه عمل وإنه ليطيب بذلك نفساً لأنه يستطيع أن ينصرف اليوم إلى بغية شبابه ويعكف على تحقيق ذلك الحلم الذي أنشغل عنه دهراً طويلاً. . .

ومن عجيب أمره أن همه يومئذ لم يك منصرفاً إلى الشعر وحده على شدة ولوعه به وتحرقه إليه؛ بل لقد كتب باللاتينية رسالة طويلة في العقائد المسيحية ضمنها آراءه في الله وفي غرضه من خلق الناس وفي أصل الوجود وفي الحياة والموت وفي خطيئة آدم وخروجه من الجنة، وفي علاقة المرأة بالرجل ومنزلتها في المجتمع وفي السياسة والدولة

<<  <  ج:
ص:  >  >>