ولكن كتابه هذا لم يعثر عليه إلا سنة ١٨٢٣ أي بعد قرابة قرن ونصف من وفاته، وقد عثر عليه مصادفة ضمن إضبارة من الورق كانت تحتوي كذلك على صور مراسلاته اللاتينية الرسمية التي كتبها وهو في منصبه؛ وليس يعرف على وجه اليقين متى بدأ كتابة هذه الرسالة، وأكبر ظن المؤرخين أنه كتبها ما بين سنتي ١٦٥٥ - ١٦٦٠، وكذلك لم يعرف غرضه من كتابتها؛ ويرى النقاد من تقسيمها وتبويبها أنه يقصد بها أن تكون رسالة يدرسها الناشئون. ويقرؤها غيرهم من المثقفين ويرى آخرون أنه ضمنها خلاصة فلسفته لتكون مرشداً وهادياً لمن يقرأ قصيدته الكبرى فأكثر آرائه في القصيدة يتمشى مع ما ذكر في رسالته اللاتينية، وكلا العملين الفني منهما وغير الفني يلقي من الضوء على الآخر وما يكشف عن دقائقه ويوضح كثيراً من أسراره، ولعل هذا هو غرضه الحقيقي من كتابة هذه الرسالة، ولذلك نميل إلى أن نرجئ الكلام عنها حتى يأتي ذلك عند دراسة فلسفته في قصيدته الكبرى، ونكتفي الآن بأن نذكر أن ملتن اعتمد على الكتاب المقدس فيما أورد من آراء كما ذكر ذلك، ولكنه لم يتقيد بأقوال المؤولين والمفسرين قبله، بل اعتمد على تأويله هو تفسيره. فأتى بكثير من الآراء التي لا يتفق معه أحد فيها؛ ويعنينا ذكر هذا لأنه يدل على ناحية من نواحي شخصيته وهي حرية فكره ورغبته في التخلص من كل قيد، ولقد تجلت هذه النزعة فيه من قبل أيام كان يجادل القساوسة وأيام كان يدافع عن الطلاق. .
وما كان يظن أحد ممن حوله أنه سوف ينصرف عما أقبل عليه من شعر ومن دراسة؛ ولكنه ما لبث أن أنصرف عنهما سنة ١٦٥٩ وعاد إلى كتيباته! ففي أوائل تلك السنة قدم للبرلمان رسالة عنوانها:(حول السلطة المدنية في الأمور الدينية لبيان أنه ليس من المشروع لأية قوة على الأرض أن تتبع الإكراه في مسائل الدين)؛ وأخذ يدافع عن الحرية الدينية ويعلن أشد سخطه على الاضطهاد الديني وإكراه الناس على غير ما يعتقدون، ولم يقتصر سخطه على غير البروتستنت، بل شمل البروتستنت كذلك، لأنه يمقت الاضطهاد والقهر أياً كان مصدره؛ ومعنى ذلك أنه يجب أن يقبل أن تتاح الحرية للكاثوليك، وإلا فكيف يحل لنفسه ما يحرم على غيره ويدعي مع ذلك أنه طالب حرية؟ ولكنه يناقض نفسه في هذا الأمر فيحاول أن يفلت من التناقض فيأتي برأي عجيب عن الكاثوليكية، فهي ليست