(صواب الأحكام) عن طريق البيأن؛ لأنهم أطالوا التأمل وأدمنوا تقليب النظر في وجوه الأشياء المختلفة. وهذا لا يتيسر لكثير غيرهم.
ولم يأت وصف لله تعالى على لسان أي مخلوق بما يخرج عن نطاق عمله تعالى وصفاته الممثلة في الطبيعة التي تدرك بالقوى الواعية وبالحواس.
نعم قد تشرق عليهم لمعات من الأذواق الغريبة عن الحياة ومن المشاهد الغيبية، ولكن لا يستطيعون إظهارها، لأنها يضيق عنها نطاق النطق كما يقرر الغزالي.
وأني ما قرأت بيان صوفي إلا وجدته خيالا شعرياً جميلا، أن كان صاحبه قديراً، ورديئاً أن كان صاحبه قاصراً كليل الذهن، وكثيراً ما أظفر بمثله من بيان أهل الدنيا السائرين على ظاهرها.
وتظهر قيمة القرآن العظيم حين أراه يأخذ المجتمع كله بمنطق وسط صالح للجماعات، وحين أراه كتاب العدل والاتزان والاعتراف بالحياة المادية والحياة الروحية كأساس واحد لازم للحياة الإنسانية.
والعمل هو روحه، لا الأماني الشعرية، ولا الأغاني الدينية ولا التماس (حسن التعليل) ولا الأماديح التي تتملق ويتهرب بها صاحبها أو يتشفع بها ويعتذر في مسئولية إهمال الأعمال، كتلك المعاذير التي يتخذها الناس مع رؤسائهم الدنيويين.
والثواب والجنة الحسية والحسنى والرضا والرحمة والاحترام والخير لذي الخير هي من أدواته كذلك في الدعوة ومجازاة الفضائل والطبائع الكريمة لأنها منطق الغرائز الصالحة والأخلاق المثلى. وكل أخلاق القرآن هي أخلاق أبناء الحياة بجزأيها العاجل والآجل، الصالحين لعمارة الأولى ونموها والعاملين لحيازة الأخرى والرفعة والرفاهة الخالصة فيها.
وكل عقائد القرآن واضحة مأخوذة من منطق الانفصال بين الإنسان والله تعالى؛ فلا حلول ولا وحدة ولا اتحاد، وبين الله والطبيعة، ومن موقف الخلافة في الأرض خلافة واسعة والتدخل في شئونها جميعاً، لا التقليل من شأنها والهرب من مجابهة فتنتها كدار امتحان وكفاح وابتلاء. موقف الاعتراف بقيمة الجسد الإنساني وسمو الروح الإنساني ووجوب الجمع بينهما لصلاح الحياة والفكر.
فلندن لله بالحياة، ولنتعبد بها هي ذاتها، ولنتخذ منطقنا من سننها التي لا تتبدل وحقائقها