ما أخي إلا من ودني وهو غائب، فتلجأ إلى القصر لغرض الاختصار.
٢ - من المعروف لدى كل من يشدو شيئاً من علوم البلاغة أن القصر في كل حالاته يفيد التوكيد والتقوية، والأستاذ لا يخالف في هذا ولا ينفعه بل يذكره في غير موضع من مذكراته ويراه أدل على إفادة التوكيد من الاختصاص فيقول أن ما نعبد إلا إياك أكد من إياك نعبد، وبدهي أن التوكيد ليس غرضاً أول بل هو من أوليات الأغراض البلاغية.
ولهذين الأمرين المتقدمين لم يعد العلماء من أدوات القصر الألفاظ تدل عليه من مثل اختصر وقصر وما إلى ذلك؛ فمثل قوله تعالى والله يختص برحمته من يشاء، وقوله: حور مقصورات في الخيام لا يعد من القصر؛ لأن الجملة لم تؤد غير معنى واحد مقصود ولا اختصار فيها؛ فلا يرتبون شيئاً من أحكام القصر على هذه الألفاظ، ولذلك نحن لا نرى رأى أستاذنا الشيخ سلمان نوار حين يرى أنه يجب أن نعد من القصر كل أسلوب ينحدر منه الذهن إلى معنى القصر وأن لم توجد أداة من أدواته المعروفة، ويعرف القصر بأنه دلالة جملة واحدة على اختصاص أمر بآخر سواء كان منشأ تلك الدلالة الوضع أم العقل أم الذوق فيشمل نحو:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ونحو:
أروني أمة بلغت مناها ... بغير العلم أو حدَّ اليماني
ثم يعجب قائلاً (لماذا يجعلون شبه ومشبها من صيغ التشبيه ولا يجعلون نحو احتص من صيغ القصر) وأظن الفرق واضحاً بين دلالة شبه على التشبيه ودلالة اختص على القصر الذي رتبوا عليه الأحكام البلاغية الكثيرة؛ والذوق شاهد عدل في هذا. فأين قولك قصرتك على الشعر من قولك: إنما أنت شاعر؟ وكذلك لم يجعلوا من صيغ القصر الاستثناء التام المثبت لأنه يؤدي معناه الأصلي لا غير. قال صاحب الأطوال:(إذا الاستثناء من الإيجاد ليس القصد فيه إلى الحصر بل إلى تصحيح الحكم الإيجابي، فهو بمنزلة تقييد طرف الحكم؛ فكما أن جاءني الرجال العلماء ليس قصراً كذلك جاءني الرجال إلا الجهال ليس قصراً بخلاف نحو ما جاءني إلا زيد، فأن المقصود منه قصر الحكم على زيد لا تحصيل الحكم فقط وإلا لقيل جاءني زيد)