المتكلم فيها أمر في نفسه هو ولا مظهر له في أجزاء تركيب الجملة، وإنما جعلت الجملة مشيرة له، ففرق بين أن تقول: ما شوقي إلا شاعر، وبين أن تقول: شوقي بلبل غرد ثم سكت، فأنت تبحث في الثانية عن الكلمات وأدائها للمعنى، وأما في الأولى فأول مرجعك قصد المتكلم وغرضه، والحال التي ألجأته إلى هذا التعبير، وهذا هو مبحث علم المعاني. على أن العلماء قالوا أن الجملة يمكن النظر إليها من جهات مختلفة فهي من حيث مطابقتها لمقتضى الحال تكون من مباحث المعاني، ومن حيث أداؤها للمعنى تدخل في مباحث البيان، ولا شك أن القصر بجملته يلاحظ فيه الأحوال الداعية. وقد يمكننا على هذا أن ننقل كثيراً من الأساليب إلى علم البيان؛ فالالتفات بأقسامه الكثيرة، والتعبير بالخبر عن الإنشاء، والأسلوب الحكيم، والتعبير عن الأمر بطريق الاستفهام وما يتصل به من هذه المباحث الطويلة العريضة كل أولئك مما يمكن التلمس لها فتدخل في مباحث البيان، ولكن أهي غريبة عن علم المعاني؟
أهناك داعٍ إلى هذا التمزيق؟ لا.
المسألة يجب أن تقتصر على التجديد في قواعد الفن والزيادة عليها أو النقص منها؛ أما أن نجدد فننقل قطعة من مكان إلى مكان ثم لا نفعل شيئاً أكثر من ذلك فلا.
وأحب أن أهمس هنا همسة في آذان الذين ينتقصون القدماء من غير مبرر وهي أن علماءنا الأعلام لم يكونوا أصحاب أذواق مريضة، ولم يضعوا القواعد وهم مغمضو الجفون عما وراءها من الشواهد، ولكنهم درسوا تراث العرب الأدبي وفهموه وتذوقوه ثم وضعوا بعد ذلك قواعدهم - أليس السكاكي وهو مقَعِّد هذا الفن ومفلسفة هو صاحب الرأي القائل بأن إعجاز القرآن لا يدرك إلا بالذوق. وفي ذلك يقول:(واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا). ويقول في موضع آخر بعد أن ذكر وجوهاً أربعة للأعجاز (يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما أن ننكره). أو ليس السكاكي هو الأعرج الثاني الذي قيل فيه وفي صاحبه الزمخشري:(لولا الأعرجان لضاعت بلاغة القرآن)؟ أفبعد هذا يقول قائل