أما ابن الرومي فقد جر على البحتري من البلاء ما أقلق باله وأزعج خاطره، ذلك لأنه كان مولعاً بهجاء من يعرف ومن لا يعرف من الناس، فخاف الوليد على نفسه منه، وطلب من سعيد بن الحسن الناجم أن يجمع بينهما في مجلس، وما إن تم ذلك حتى نشأت بينهما صداقة وليدة، ولكن البحتري عاد فهجَّن شعر صاحبه على ملأ من الناس، وما أن شاع في ذلك حتى أنفجر ابن الرومي كالبركان الهائج يقذف الحمم على رأس الوليد. فهجاه مرات عديدة، ولم ينس أن يتعرض إلى شعره فيُبيِّن رأيه فيه بوضوح حين يقول:
قُبحاً لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكد والتعب
عبد يغير على الموتى فيسلبهم ... حر الكلام مجيش غير ذي لجب
وقد يجئ بخلط فالنحاس له ... وللأوائل ما فيه من الذهب
يعيب شعري وما زالت بصيرته ... عمياء عن كل نور ساطع اللهب
الحظ أعمى ولولا ذاك لم تره ... للبحتري بلا عقلٍ ولا أدبِ!
إلى أخر ما قال.
هذا وقد هاجم على بن الجهم بدون ذنب جناه. فقد ورد على المتوكل على الله من البادية فأعجب الخليفة بخشونته وبسط له جناح عطفه، وما زال به حتى دمث طبعه، ورقتْ معانيه فأتى في شعره بالمرقص المطرب، ولكن الوليد لم يطق ذلك من المتوكل، فأنبري يهجو ابن الجهم هجاء مُراً، وكان علي قصير الباع في السباب فلم يستطع الصمود أمام غريمه، فتزيد عليه البحتري موجهاً جل هجومه إلى ما تحت ثيابه! وكان الأولى بالوليد أن يترفع عن هذه الناحية المقيتة، ولكن هذا ما كان! على أن البحتري فيه هجاء قد خلا من الفحش الصارخ. فكان جيد المعنى، رائع السبك، يدل على تفكير قوي وشاعرية ثرة، كأن يقول:
يا قذىً في العيون يا غُلَّة ب ... ين التراقي يا حرارة في الفؤاد
يا طلوع العذول غب صفاء ... يا غريماً أتى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيم وصَيْفٍ ... يا وجوه التجار يوم الكساد
خلّ عنَّا فإنما أنت فينا ... وأو عمرو أو كالحديث المُعاد
امض في غير صحبة الله ما عش ... ت مُلقى في كل فجِّ ووادي