وانتهت بذلك حملت الدردنيل بعد أن فتحت الطريق للقواد والنقاد والكتاب الحربيين يضعون المؤلفات عن تاريخها وأيامها ومواقعها فإذا نحن أمام مكتبة فيها عشرات المجلدات بمختلف لغات العالم ما تقرا مجلدا بالإنجليزية حتى تراه مترجما للتركية ونرى مثيله فيها، وما تجد مؤلفا بالألمانية حتى تجد ما يساويه بالفرنسية، استعرض كاتبوها مواقع البر ومعارك البحر وحددوا سير القتال ومواضع الزحف وانتقدوا عمل الأساطيل كما انتقد رجال البحر عمل رجال الجندية، وتبين من أقوال الاختصاص أن مشاريع اقتحام المضايق درست وبحثت ووضعت تفاصيلها منذ عام ١٩٠٦، وضع المؤلفون كتبهم وتداولها الناس ولكن رجلا واحدا بقي صامتا لا يتكلم هو مصطفى كمال صاحب المواقف الحاسمة وبطل أنا فارطة، إنه لم ينسب لنفسه شيئا بل قال:(إن ما حصل عليه من مجد ليس من عمله؛ إنه نتيجة كفاح الجندي التركي وحده) ذكر مرارا ذلك وأعاده وكرره.
لقد انتهت المعركة التي جعلت منه بطلا عالميا وخفتت أصوات المدافع وزمجرة البطاريات السريعة الطلقات وزالت الأخطار عن عاصمة آل عثمان فأقيمت الأفراح فإذا بأنصاف الرجال يدقون الطبول ويرفعون أرباع الرجال إلى السماء، وإذا بهم يتقاسمون الأسلاب ويفرحون بما لم يفعلوا وينسبون أمجاد الغير لأنفسهم ووقف القائد العنيد يدخن سيجارته بهدوئه وصمته وقد اتجهت أنظاره إلى آفاق بعيدة، فما الذي أوحت به إليه تلك الأيام الحالكة السواد وهذه المعارك الفاصلة، وماذا تركت في نفسه من دوافع وما حملت إليه من أفكار؟ لقد كانت أقامته وقتئذ بمركز قيادة الفرقة التاسعة عشرة بشبه جزيرة غاليبولي، وكان يقضي الأيام والليالي في وحدة شاملة وقد تجمعت أفكاره واتجهت إلى مستقبل هذا الوطن الجريح، وقد اخترقت عينه النافذة ما وراء الحجب فإذا هي تبصر ما يحيط بلاده من الأخطار وما يحاك حولها من مكائد وما يرسم ويدبر من خيانات وما يعقبها من أهوال ونكبات.
في لحظات التركيز والوحدة استرد مصطفى كمال ثقته في نفسه وإيمانه في أمته، فأيقن أن الأقدار قد حملته رسالة مقدسة هي إنقاذ تركيا من مصائبها. ويحدثنا عن نفسه في تلك الفترة الرهيبة فيقول: أخذت تنتابه الأفكار وترتاده الآمال الكبار وهو يحركها في بوتقة التحليل مستعينا بمنطقه الجبار فيفرز الغث من السمين ويطرد الهواجس والأحلام