المقطوعة على يده قوة وخطراً وطبعت بطابع الصدق والإخلاص وجرت فيها إشارات إلى أمور تتصل بالعلم أو بالفلسفة فألبسها ذلك كثيراً من الجد والفائدة وليس هذا الاتجاه بالأمر الهين في تاريخ المقطوعة إذا ذكرنا أنه أوحى إلى شعراء القرن التاسع عشر أن يحذوا حذوه، فكان لمقطوعاتهم في الحرية والسياسة وانتقاد عيوب المجتمع وأشباه ذلك من المسائل قيمة عظيمة وأثر بعيد في القلوب والأذهان ما كان يتفق لها لو أنها اقتصرت على التغني بمعاني الحب والجمال. ويتجلى أثر ملتن في هذا التوجيه في مقطوعة وردثورث التي أشرنا إليها والتي يقول فيها شاعر القرن التاسع عشر: إن انجلترة في حاجة إلى ملتن؛ والتي يذكر فيها شكواه قائلا:(نحن قوم طغت علينا الأنانية، وارفعنا وأمددنا بالمثل في الآداب والفضيلة والحرية والقوة)
ويحس من يقرأ مقطوعات ملتن أنها نفثات نفس عظيمة وهمسات روح قوية، وهي على قلتها زاخرة بفيض من الخواطر، ويرجع ذلك إلى طبيعة المقطوعة في بنائها كما يرجع إلى مقدرة ملتن العظيمة على الإنجاز البليغ الذي جعله يعبر بالكلمات القلائل عن المعنى الواسع الكثير الوشائج، وهي مقدرة جعلها وكولى من أبرز خصائص شعره، بل جعلها خاصته التي يمتاز بها من أكثر الشعراء، وهي من الزم الصفات كما ذكرنا لبناء المقطوعة
وحسبك أن تقرأ في هذه المقطوعات العاطفة الرقيقة التي تعبر عنها النغمة الهادئة الرخية كأنها نسمات الفجر، إلى جانب الصرخة الصاخبة المدوية كأنها هياج العاصفة أو اصتخاب الموج، لتعرف كيف استطاع ملتن أن يجعل من المقطوعة شيئاً آخر قوياً مهيباً له خطره وأثره، وتجد مثالا للأولى في إشارته إلى ما أصابه من عمى وفي توجده على فقد زوجته الثانية، وتجدمثالا للثانية في غضبته لمذابح بيدمنت وجملته على مستكرهي الضمائر من البيوريتانز، وفي سخريته ممن انتقدوا كتيباته من خصومه. وبين هذا وذاك تقع على نغمات تتصف بالقوة والجلال وهي التي مجد بها أبطال قومه مثل فيرفاكس وكرمول، والتي دافع بها عن الحرية الدينية والسياسية
بهذه الصفات وأمثالها رفع ملتن المقطوعة مكاناً عالياً، فلم تعد كما كانت أغنيات غرامية رائعة أو مائعة، وإنما أصبحت هتاف شاعر يهيب بقومه إلى جانب كونها خلجات نفس تتألم وتتفجع كسائر النفوس، وما من أصدق وأجمل كلمة وردثورث التي وصف بها