وشرع بعد ذلك يقوي سلطته على البلاد التي أدخلت حديثا تحت حكمه، واخضع عرب الازارقة، وانشأ معامل للأسلحة والعدد الحربية وملابس الجند في تلمسان ولاغوات وميجانة وزيبان، وبنى حصونا لخزائن بيت المال، وأقام على كل حصن بلدة، منها تاقدت وتازة وسعيدة وبوغار وعريب وسبدو وغيرها.
ثم رتب جيشا منظما على نمط جيوش الدول، وقسمهم إلى فرسان مشاة سماهم العسكر المحمدي، ومدفعية وسماهم الرماة، واختار لتدريبه ضباطا من الجيش التونسي ومن الجند التركي الذي بطرابلس ومن الفارين من الجيش الفرنسي، ووضع لهذا الجيش قانونا لمأكله وملبسه ورواتبه ومدة التعليم وشروط الترقي فيه ومنح الأوسمة، ونظام المرابطة والحرب، وضرب نقودا وسماها المحمدية، وعنى بشؤون الزراعة والتجارة والتعليم، وأقام دهاليز لادخار الحبوب وانابير للأقوات ورمم القلاع، ولم يهمل شيئا مما يجب لتأسيس الحكومات الشرعية. ولم تكن همته زمن السلم اضعف منها إبان الحرب.
ولما كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع الأقطار التي تود الاستيلاء عليها هي في الغالب منازل استجمام بين مراحل الحرب فقد تعللت فرنسة في تفسير بعض فقرات (معاهد التفنة) وأرادت التخلص منها بعد أن أعدت العدد وعززت الجيش، مع أن الأمير كان يعمل بها، فاستأنف القتال بينهما فزحف الماريشال فالي والدوق دومال، فنادى الأمير بالجهاد في ٢٠ نوفمبر ١٨٣٩ فاستمرت الحرب من هذا التاريخ إلى عام ١٨٤٣ بلا انقطاع وقام فيها الأمير مقامه المحمود الذي طار ذكره في الآفاق، واثبت فيه عبد القادر للدنيا كلها أن الجزائر الجبارة متى شاءت بنت الرجال من أمثاله في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة.
وعدم تكافؤ القوتين المتقابلتين سبب سقوط أكثر حصون الأمير واحتلال العدو أكثر معاقله ومدنه مثل تاغت والمعسكر وتازة ووادي الشليف، فتحول إلى الغرب، فزحف العدو إلى تلمسان ونواحي ندرومة واحتلها، فقصد الأمير إلى الجنوب فباغته الدوق دومال وغنم كثيرا من عتاده، ففت هذا الحادث في عضده وخذله أكثر أعوانه ففر إلى المغرب، وسعى لحمل سلطان المغرب الأقصى على شد أزره فأمده بجيش فكانت بينه وبين الجيش الفرنسي (واقعة إيسلي) في ١٢ أغسطس ١٨٤٤.