فلا ينفذ إلى صميم مشكلة واحدة، لأن عنصري الاستقامة والإخلاص لا يتوفران.
٣ - أما الجواب عن السؤال الثالث فهو فضيحة الفضائح فما عهدت أن يعمد مؤلف إلى مؤلف حي، فيقبض فصولاً كاملة من كتابه قبضاً، ويمهرها بتوقيعه ويطلع بها على الناس.
جرأة نادرة. ولكنها جازت على النقد في مصر!
لقد كنت - وما زلت - أفهم، أن الناقد قارئ متتبع لسير الفكر. فهذا هو الشرط الأول للناقد كيما يستطيع أن يؤرخ خطوات الفكر، ويعرف من السابق ومن اللاحق.
وأنه يتحرج أشد التحرج من إصدار حكم بالسبق والأهمية، إذا لم يكن قد أطلع على كل ما سبقه أو جله، لأنه مسئول عن تقرير أحكامه للضمير وللتاريخ وللقراء.
فما بال كتاب صدر منذ عهد قريب، ونشر قبل ذلك فصولاً في مجلتين مقروءتين، ثم يجيء كاتب، فيهجم هجوماً بشعاً على فكرته، وطريقة عرضها، وبراهينها وأدلتها، ثم لا يجد ناقداً يقول له: مكانك فهذا استغفال!
لقد عملها الرجل، ولم يجد من يقول له هذه الكلمة في مصر إلا بعد حين!
لقد عملها وهو يتحدى: (سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!
ترى كان الرجل يتوقع هذه الغفلة، أم قد نزع عن نفسه (الأغلال) لم يكن يبالي وقد صدّفت الأيام ظنه أو تكاد!
إن في مصر غفلة نقد منشؤها أن كثيراً من الكبار الذين كانوا يتولون حركة النقد لم يعودا يقرءون. وإذا قرءوا لم يقرءوا للشبان، استصغاراً منهم لما ينشئ أولئك الشبان.
وهم أحرار في هذا، ولا يستطيع أحد أن يجبرهم على قراءة معينة. فهم في دور الكهلة والشيخوخة كثيرو المتاعب، ولأنفسهم عليهم حق، ولهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية والفكرية حسبما يشتهون. فإن من حقهم أن ينالوا الراحة والحرية بعد الجهاد الطويل.
ولكن عليهم مقابل الراحة والحرية ألا يتعرضوا للنقد، فيصدروا فيه الأحكام إلا بعد تتبع لحركة الفكر في كل كتاب يصدر في الفن الذي يريدون نقده، وإصدار حكم عليه، فذلك هو واجب الضمير الأدبي في أضيق الحدود.