بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته فلسفة سرية. يجوز أن يدعو (مأمون رضوان) إلى الإسلام جهاراً، ويجوز أن يعلن (علي طه) اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية. أما فلسفته هو فينبغي أن تظل سرية - لا احتراماً للرأي العام، فإن من مبادئها احتقار كل شئ - ولكن لأنها لا تؤتى أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعاً بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها إلا ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر؛ إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية. فبدا للقوم ساخراً ماجناً، لا شيطاناً مجرماً، ومضى في سبيله شابا فقيرا بلا خلق، يرصد الفرص ويتوثب للانقضاض عليها بحرارة لا تعرف الحدود).
وهو تصوير معجب لشخصية هذا (النموذج) وقد صور زملاءه كذلك - كما صور كل شخصية جاءت في الرواية - ويعجبني فيه ذلك التعليل الصامت لاتجاهات (محجوب عبد الدايم) وزملائه. إنهم كلهم في جامعة واحدة، يدرسون نظريات واحدة، ويخضعون لمؤثرات واحدة، ولكن كلا منهم يختط طريقة في التفكير والحياة بحكم مزاجه ووراثاته ورواسب شعوره، ويخلق لنفسه فلسفة يعتمد فيها على نفس الأسباب والعلل التي يعتمد عليها الآخرون في تكوين فلسفة مغايرة! ويصدق سلوكهم فيما بعد هذه القواعد أيضاً.
حقيقة إن محجوب عبد الدايم لم يكن في سلام مع شعوره دائماً وهو يواجه التجارب. فالنظريات شيء - مهما يكن الاقتناع بها، ومهما تكن بواعثها - والتجارب العلمية شيء آخر. ولكنه سار إلى نهاية الشوط، ولم يقف إلا حين صدمته أنانية أخرى ففضحته، وحين إنفضحت الرذيلة في القصة لم يكن ذلك ليقظة في ضمير المجتمع فهو مجتمع مريض. وإنما كانت غلبة رذيلة على رذيلة!!
ولكن - كما أشرت من قبل - آخذ على المؤلف قسوة لم تكن لها ضرورة في بعض التجارب التي تواجه هذا الشاب.
لقد خيرته الظروف بين أن يبقى بلا وظيفة. أو أن يكون في وظيفة مغرية (سكرتير وكيل وزارة ثم مدير مكتب حينما يصبح وزيراً) بثمن! هو في ذاته فادح. أن يتزوج بفتاة عبث بها الوكيل الوزير!