للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وردوا لهم كرامتهم الإنسانية وساووهم بأنفسهم (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

واختفت في فجر الإسلام نزعات العصبية، ونزعات اللون، ونزعات الجنس ونعرات العزة بغير الله. كلكم لآدم، وآدم من تراب)!

اندفع الإسلام بهذه السرعة الخارقة، وبهذه القوة الجارفة، لأن الذين اندفعوا به قد ارتفعوا على أنفسهم، وتساموا على ذواتهم، وخفتت في أرواحهم سورة الفردية، وغلت فيها فورة الغيرية. ولأنهم تخلصوا من أوهام الحياة المادية المجسمة، وعشقوا فكرة روحية مجردة. . . وصار لقاء الله في سبيل مبادئه، أحب إليهم من لقاء أهلهم وأبنائهم، ورغبوا في النعيم الموعود برضاء الله عن النعيم الذي يلذونه في هذه الحياة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون، ويقتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم).

هذه الروح الإسلامية العالية، وهذا المد القوي الغامر، كان أول من وقف في طريقه، وارتد به سبيله هو معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وإخوانهما وأمثالهما ممن تنكبوا طريق الفكرة الإسلامية الروحية النبيلة، إلى الرغبات والأطماع الذاتية الوبيلة.

وكانوا أول من رد العصبيات الصغيرة المحدودة إلى مكانها، وأول من برر الوسيلة بالغاية، وأول من طعن روح الإسلام في الصميم.

ولم تعد الروح الإسلامية إلى مدها العالي مرة أخرى بعد هذه الفعلة؛ ولكنها كانت ترتفع في فترات، ثم تعود بعدها إلى الهبوط. مع هذا فقد كان المد العالي الأول - وهو أعلى مد بلغته البشرية في تاريخها كله كان كفيلاً بأن تثب البشرية وثبة لا مرجع عنها مهما انحسرت موجتها الأولى فاستمر التيار إلى الأمام وجرف معه الإنسانية جميعاً.

الفكرة الروحية الضخمة تجد التلبية بمقدار ضخامتها. وتتسع موجتها بمقدار اتساعها. وقد ظل العالم الإسلامي بين مد وجزر منذ الموجة الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد وصل إلى انحطاط وخمول وإفلاس روحي ومعنوي.

وعلى عادة الروح الإسلامية في الانبعاث بين فترة وأخرى على مدى التاريخ رأيناها تنبثق في جمال الدين الأفغاني.

<<  <  ج:
ص:  >  >>