كان هذا الرجل شعلة محرقة مضيئة، ما مست روحاً إلا ألهبتها وأضاءتها بحسب ما فيها من استعداد للهب والإضاءة.
وكان في هذه الروح رصيد ضخم، تزود به كل من لقي الرجل في بلاد الشرق جميعاً.
ثم استقر في مصر فترة فأودعها الشعلة المقدسة التي يحملها ومنذ ذلك الحين، وفي خلال السبعين عاماً الأخيرة، نهضت مصر ثلاث نهضات عامة، وصلت فيها درجة اليقظة القومية حداً عاليا.
كانت النهضة الأولى نهضة (عرابي) لرفع شأن القومية المصرية، وإحلالها المكان اللائق بكرامة الشعوب.
وكانت النهضة الثانية نهضة (مصطفى كامل) لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، الذي لا يستند على أساس من الحق والعدلوكانت النهضة الثالثة نهضة (سعد زغلول) للثورة على هذا الاحتلال، وتقرير مصر في الاستقلال.
وليست هذه النهضات الثلاث بمنفصلة في حقيقة دوافعها - وإن فصلت بينها الأعوام - فهي جميعها تنبعث عن مصدر واحد، هو هذه الطاقة الضخمة التي انتقلت من شعلة جمال الدين قبل ثلاثة أرباع قرن في الشرق الإسلامي.
ولم تكن شعلة جمال الدين سياسية صغيرة محصورة في الأهداف الوطنية المحدودة، إنما كانت شعلة روحية، تلهب النفس الإنسانية فتتفتح منافذها جميعاً. وهذا هو الذي كفل لها الامتداد طويلاً.
وقد ظلت الأمة المصرية تنفق من هذا الرصيد في ثوراتها السياسية الثلاث، تنفق وتستهلك. ولا تضيف شيئاً إلى الرصيد لأن الزعامات الثلاث، كانت بالقياس إلى جمال الدين، ضيقة محدودة. تطوي أنفسها على مطالب قريبة محدودة، وليس لها رصيد روحي جديد.
وهنا كان موضع الخطر.
فالدفعة السياسية تفلح حين يكون وراءها رصيد روحي ضخم تنفق منه وتشتعل به، وهذا الرصيد يحفظ مستواها من الهبوط، ويصونها من الخمود. فأما حين تنفد هذه الطاقة أو تضعف فالفورة السياسية وحدها لا تكفي وهي مهددة على الزمن أن تخبو.