للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مذاكرة.

ولكن عيسى بن موسى لم ينطل عليه شيء من ذلك، ولم يذعن لهذا الاحتيال الظاهر من عمه أبي جعفر، ورأى أنه لا مهدي يراد، وإنما تراد ولاية العهد لا غير، والباطل يظهر أمره وإن حاول الناس إخفاءه، والحق لا يأتي بمثل هذا الاحتيال والتصنع ولا يقوم أمره على نقض العهود، ولا تستبيح دعوته الحنث في الأيمان.

فلم يزل عمه أبو جعفر يأخذه تارة بالقهر، وتارة بالإغراء، حتى خضع لما أراد، وترك ولاية العهد لابن عمه المهدي، فقام بالأمر بعد أبيه أبي جعفر، وإذا هو ملك كغيره من الملوك، لم يملأ الأرض عدلاً، ولم يحقق للمسلمين أملاً مما يرجونه من المهدي المنتظر، بل سار في الطريق التي سلكها من مضى قبله من ملوك بني العباس وبني أمية، وسلكها من أتى بعده من الملوك ولم يكن ما قام به المنصور من الدعاية له إلا أماني خادعة، واحتيالات لما أراده من قيامه بالأمر بعده.

وكذلك كان أمر كل من ادعى أنه المهدي المنتظر قديماً وحديثاً، يحاول في أمره أن يصله بأمر السماء، ليأخذ الناس بدعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ويحملهم على ما يريده من إذعانهم له، حتى يقيم فيهم ملكاً له ولأولاده، أو يجعل له سلطة دينية عليهم، فلا ينخدع به ذلك إلا من تنطلي عليهم خديعته، ويبقى جمهور المسلمين بعيداً عنه، لا يؤمن بخداعه، ولا يرى أن دعوته هي الدعوة التي يرجوها.

لأنهم يرجون إصلاحاً لا ملكا، ويريدون مصلحا لا يبغي لنفسه من الإصلاح شيئاً، ولا يجعله وسيلة لمآرب شخصية، دنيوية كانت أو دينية، حتى تكون دعوته خالصة لوجه الإصلاح لا يشوبها شك ولا تشوبها ريبة.

ولأنهم يرجون الإصلاح من طريق العلم والاجتهاد، ويريدون أن يؤمنوا به بالدليل والبرهان، لا بتلك التنبؤات الموضوعة، ولا بدعوى الولاية والتأييد من الله تعالى، لأن الإسلام قد أغلق باب الإقناع بهذه الوسائل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح باب الاجتهاد والإصلاح، وجعل وسيلته الإقناع بالدليل، حتى يؤمن الناس عن بصيرة، ويأخذوه عن علم لا عن تقليد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه دينهم، وكما كان الأصحاب يأخذون دينهم عنه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>