فامتثلوا أمره ومنهم من جمع ديوانه وقد فقد، وله غير آثار أدبية وكان عالماً شاعراً وإدارياً محنكا وقائداً مدرباً.
جلس داود باشا على منصة ولاية بغداد في ٥ ربيع الآخر سنة ١٢٣٢هـ - ٢٢ شباط ١٨١٧م، فقرت به العيون، ووفد عليه العلماء والشعراء من كل فج عميق يهنئونه ببلوغ المراد، وما كاد يجلس على منصة الحكم حتى أجرى إصلاحات عديدة، منها إصلاح طريقة تعليم العربية. وقد رُوي أنه أراد أن يتقن العربية ويتفنن بأساليبها، ويقف على شواردها ونوادرها، فأحضر أحد لغوييها الفطاحل في عصره وطفق يتلقن عنه آدابها مدة. ففي أحد الأيام بينما كان أستاذه يقرأ عليه نبذة من علم النحو ويفسر له قواعده وشوارده بأمثلة قديمة مستطرفة سئم تلك الأمثلة البالية كضرب زيد عمراً وقتل خالد بكراً، وخطر له إذ ذاك أن يسأل شيخه على سبيل المداعبة عن الجناية التي جناها عمرو ليستحق أن يضربه زيد كل يوم، وينكل به هذا التنكيل الشديد مع أنه ربما لم يأت أمراً فرياً. وهل كان عمرو جباناً أو رجلا ساقط الهمة ذليل النفس إلى هذه الدرجة حتى أنه يغض الطرف عن الإهانة الملحقة به في كل لحظة، ويتجرع غصص الآلام المبرحة عن طيب خاطر، وهو ساكت لا يبدي أقل حراك.
أستغرب الأستاذ ذلك الكلام كل الاستغراب وعدّه من قبيل الأوهام، ولم يتمالك أن استلقي على قفاه من شدة الضحك، ثم قال لدولة الوالي ليس في الواقع يا مولاي ضارب ولا مضروب بل اعتاد النحاة من قديم الزمان أن يأتوا بأمثلة لتقريب القواعد النحوية والصرفية من أذهان طلاب العربية. فلم يرقه ذلك الجواب وعده أو هي من نسيج العنكبوت؛ فلما طلب منه المزيد استاء الشيخ من لجاجته في مسألة تافهة جداً فسكت ولم ينبس ببنث شفة، فاستشاط الوالي غضباً وأخذ يحرق الأرم وعد ذلك السكوت احتقاراً لشأنه وإهانة ليس وراءها إهانة، ثم قال للأستاذ بلهجة المتهكم والشرر يتطاير من عينيه: أيها الشيخ الوقور ما كان يدور في خلدي أن بضاعة علمك خفيفة هذا الخفة، وكنت أظنك أجل من أن تعجز عن الجواب في مثل هذه المسألة البسيطة التي ربما أجاب عنها أولاد المكاتب، ثم أمر الحاجب بأن يأتي بنفر من الشرطة، ويقاد إلى السجن ذليلا صاغراً ليلقي هناك جزاء جهله وغباوته. ثم استحضر نحوياً آخر وألقى عليه ذلك السؤال بعينه، فأجابه