بنحو ما أجاب الأول، فغضب عليه وأمر بسجنه أيضاً. ومازال يأتي بالنحويين واحداً بعد واحد ويسجنه حتى أتى على أخرهم، فأقفرت المدارس والكتاتيب من النحويين، وضاقت بهم غرف السجون على رحبها، وأصبحت هذه القضية الشغل الشاغل له ولبطانته عن جميع شؤون الدولة ومصالحها. فلما ضاق ذرعاً ولم يدر ما يعمل فتق له عقله أخيراً أن يبث العيون في اقتفاء خطوات النحاة، ليعرض عليهم ذلك السؤال الذي أصبح لديه أعقد من ذنب الضب.
وبينما هو غائص ذات يوم في بحر تلك الأوهام إذ بلغه أنه في المدينة نحوي بارع طاعن في السن قد تنحى عن منصه التعليم منذ بضع سنوات وهو ملازم داره، فأمر في الحال بإحضاره، فلما مثل بين يديه أعاد عليه السؤال واستطلع رأيه فيه. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وإمارات الفوز بادية على محياه الجليل وقال: إن الجناية التي أتاها عمرو يا مولاي لجسيمَة جداً، ولا أراني مبالغاً إذا قلت إنه يستحق أن ينال من القصاص أضعاف ما نال. فتنفس صاحب الترجمة الصعداء وذهبت عنه كربته، ثم سأله بلهجة المتلهف: وما هي تلك الجناية يا عماه؟ قال الشيخ بكل هدوء إن عمراً القليل الحياء هجم على اسم دولتكم بدون إذنكم واغتصب منه الواو، ولما كان ذلك منافياً لحكم العدالة رأى النحويون من باب اللياقة والإنصاف أن ينتقموا من عمرو لوقاحته انتقاماً شريفاً، فسلطوا عليه زيداً الصارم، وأمروه أن يذيقه جهاراً كل يوم في ردهات التدريس وغرف المكاتب من العذاب ألواناً، حتى كثيراً ما يغمى على ذلك المسكين من شدة السياط جزاء سلبه وسرقته، فأعجب صاحب الترجمة بذلك الجواب كل الإعجاب وأحله محلا رفيعاً بين أبناء الأعراب، وقال له إنك حقاً لنادرة الزمان وأديب العراق وخراسان والعالم الكبير المشار إليه بالبنان. فأسألك ألا تخرج من هنا ما لم تطلب مني ما تشاء فأمرك مطاع وطلبتك مقضية، فقال له الشيخ إذا كان لابد من طلبتي فأتوسل إليكم أن تطلقوا سبيل زملائي المسجونين الذين تركوا عيالهم ومن يلوذ بهم عالة على ذويهم، فامر في الحال بإطلاقهم وأعاد عليهم رواتبهم التي كانوا يتقاضونها في غرة كل شهر، غير أنه اشترط عليهم أن يصلحوا طريقة تعليمهم العربية وينهجوا منهجاً جديداً، ثم أنعم على ذلك الشيخ الرفيع المنزلة بالجوائز والصلات وقربه من مجلسه، وأمسى من تلك الساعة مرشده الوحيد في الملمات، وساعده الأيمن في حل المشاكل