المخترع رحيما بالعالم فاخترع، إنه يجهد فكره ليستفيد ويتمتع، ثم حين يكتفي بالمتعة، يعرضه على الناس، إنما كان يخترع لنفسه، وما كان يفعل كما فعل (يسوع وبوذا) رحمة للناس وإشفاقا عليهم.
إن النشاط لب الحضارة وروحها حقا، إذ أنه لا تبقى حضارة إلا بالاختراع، ولا يعيش ابن آدم ولا ينمو إلا والاختراع يقدمه من جهاته جميعا.
ومن يوم أن عرفت (أن الابتكار لنفع الناس، ولكن انتفاع الناس ليس ناتجاً عن رحمة المخترع بهم)، اتسع نطاق فكري أو امتدت مسافته، فتمكنت من معرفة بعض أساليب الحياة. خذوا منها مثلا، فالشمس لو أضاءت ونشرت أشعتها وحرارتها، فسرت الحياة في الكائنات ونما النبات وشب الحيوان، ثم توجهنا إلى الشمس وسألناها:(أيتها الشمس! هل أنت أشرقت ونشرت الحرارة من أجل الدنيا وما فيها؟) فقد تجيبنا الشمس مرتبكة حائرة: (لا أدري، لا أدري!) وإذا نحن كررنا السؤال وأبينا إلا أن نعرف السبب في ضيائها، فربما أجابتنا مضطرة (إني أنشر الحرارة لأني أريد الحرارة ولابد لي منها!) تلك إحدى نظريات الحياة وأساليبها عرضتها عليكم أيها الكرام، وهي قانون من قوانين الحياة التي تندفع إلى الأمام بدون تردد، لذلك أعتقد أن الاختراع سيستمر كما فهمت من نظرية الشمس والحياة. وهذه النظرية وإن كانت من أنواع الفلسفة، إلا أنها ليست مما يتفق مع مذهب (نيتشة) بل من فلسفة أعلى من فلسفة نيتشة.
لست أريد الغموض والخفاء بالبحث في الفلسفة والنطق بها في حديثي عن نظرية الشمس، كلا، فانه لا غموض في الأمر ولا خفاء؛ لأن ما قصدت من ذلك هو أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متجاوزة نطاق المتاع الشخصي إلى قوانين السماء، المراد بالسماء ما وراء الطبيعة، بل حقيقة الطبيعة، وبكلام أكثر صراحة ينبغي أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متعدية تلك الحدود التي يعامل بها بعض الناس بعضا، مسيطرة على الطبائع والكفايات، مستعملة إياها في الابتكار للحياة، وهي مادامت قد استخدمتها على ذلك الأساس فهي عين الفضيلة ولب السعادة للإنسان، وليست تلك الأمور في حاجة إلى مراعاة وغاية، بل هي داخلة في نطاق منافع الحياة عن طريق الابتكار.
إن شدة العناية بالمتاع الشخصي والتجاوز عن مسايرة قانون الطبيعة هو الذي كلف