أعقف كمنقار الصقر، وذقن غائص في وجهه لا يكاد تظهر، ووجنتان فيهما حفرتان، فكنا نصوره بخطوط معدودة فتبرز ملامحه لا يعجز عن ذلك طالب فينا، أما المصور البارع حقا فهو الذي تظهر براعته في كل صورة، ويصور كل إنسان، وعندنا في الشام من ينظر إليك دقائق، فيصور لك صورة تضحك أنت منها، ولا يشك أحد من أصحابك في أنها صورتك
ثم إن هذه الصورة المنشورة مع مقالتي، لفتى في السادسة عشرة وأنا في حدود الأربعين، وهي لشاب حيي مسكين، وأنا رجل شرس ما كنت، ولله الحمد، مسكينا قط.
فإن كان هذا هو (الفن) في مصر، فيا ضيعة الفن في مصر!
علي الطنطاوي
ذكرى باحث الشرق:
في منتصف شهر مارس من عام ١٨٩٧، انتقل المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني إلى جوار ربه، ففي مارس القادم يكون قد مضى على وفاة ذلك المصلح العظيم خمسون عاماً كاملة.
ومن نافلة القول أن تقول إن جميع أقطار الشرق الإسلامي مدينة في نهضاتها ووثباتها، وما تحقق لها من مظاهر التقدم والحرية للسيد جمال الدين الأفغاني ذلك الرجل الذي قضى حياته يكافح الاستبداد وينافح الاستعمار، ويصيح بالشرق المستسلم أن يستيقظ، وفي هذا السبيل عاش شريداً طريداً تدفعه يد الأقدار أو يد الاستعمار من قطر إلى قطر، وتخرجه من بلد إلى بلد، حتى قضى شهيداً في مطارح الغربة، وليس حول سريره زوج ولا ولد.
ليس من شك في أن الأفغاني - نضر الله قبره ونور ضريحه - قد أقام دعائم النهوض للشرق الإسلامي، وبنى لحراستها قلاعاً من الرجال وإن بقية الخير وطلائع الإصلاح في الشرق هم تلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه، وما كان للأفغاني مع هذا من ولد يريد أن يورثه المجد، ويحفظ له المكانة، وما كان له من مطمع في رفاهية الحياة فقد احتقر عروض الدنيا من أيدي السلاطين والحكام، وازدري المال والرفاهية، وعاش حياة خشنة أشبه بحياة الصوفية والمتزهدين. . .