فيما بعد أسواره إلى منابعه واقع في الأرض التي تسمى السودان، فإذا أبى السودان أن يفضل على مصر بالقدر الكافي من ماء النيل، فقد حدثت المجاعات، وهلكت الزراعة وبارت التجارة وذهب المال واندثرت الحضارات وانطمس التاريخ، ولم يبق في الدنيا دولة تسمي نفسها الدولة المصرية، بل مكان في الصحراء يقال له مصر ليس إلا، مجرداً من كل ما تكون به دولة أو أمة. فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارى فيها بالعصبية أو الكبرياء هو أن السودان هو سيد هذا الوادي الذي يمده النيل بمائه، وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي النيل كل باسم الدولة المصرية برضى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة المصرية السودانية.
ومن البيّن الذي لا خفاء فيه أن السودان كنز كله، بمائه ومعادنه وغاباته وحيوانه وكل شيء فيه، والذي في مصر من ذلك لا يعدل واحداً من ألف من هذه القوى الطبيعية المكنوزة في أرضه وجباله وسمائه. وهذه القوى هي التي تجعل لصاحبها السيادة العليا على الذي يستمد من فضلها. فمصر تستمد من قوى السودان جزءاً يسيراً وهو الماء، وتستمده برضى أهل السودان ومسالمتهم وأخوتهم، فمن العبث إذن أن تدعي مصر (سيادة) على السودان، بل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سيادة السودان هي العليا، وأن مصر جزء من السودان، وهو جزء عظيم خصب صالح للاستثمار في الزراعة وغيرها استثماراً عظيما، فمن مصلحة السودان أن يفضل الماء على هذا الجزء لتزدهر زراعته وحضارته ويكون للسودان ذخراً من القوة يضارع القوة التي فيه. والسودان محتاج إلى هذا الأفضل لأن المنطقة الصالحة للزراعة في مصر أعظم وأجدى من المنطقة الواقعة في الجزء المعروف اليوم باسم السودان. ومن هذا تعرف كيف دبر الله لهذين الشطرين العظيمين أن لا يجد أحدهما مندوحة تغنيه عن صاحبه، وتفرض على كل واحد منهما أن يتشبث بصاحبه، فإذا تنابذا وتنافرا وتدبرا وتقاطعا، حاق بهما جميعاً ما يحيق بكل أخوَين متنابذين متدبرين، وهو الهلاك والضياع الذي تخاف مغبته.
وأنا لا أظن أن في الدنيا شيئاً هو أوضح للعقل السليم من هذا الذي ينبغي أن يكون بين مصر السودان، أي الحقوق الطبيعية التي يفرضها وجود هذين الشطرين المتجاورين: