للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأنا لا أزال أشكر الأخ الكريم على حسن تسديده للمخطئ، وكمال أدبه في دقة القراءة. وقد أحسن إلي من حيث أساء غيره ممن جعلهم الله على مدرجة المثل الذي جرى على لسان الأوائل، والذي وضعوه لمن يضع نفسه حيث لا يستأهل، وهو قولهم: (متى كان حكم الله في كرب النخل!!).

على أني أحب أن أقول قولا آخر أخشى أن يكون له وجه وإن كنت أوثر هنا القول الأول، وهو أن الفعل ككثير من الأفعال التي كثر استعمالها، قد تلعب به العرب لكثرة دورانه على ألسنتها، حتى حذفوا منه الحرف الذي لا يحذف من أمثاله كقولهم (لم يك) في (لم يكن) وهو حرف من نفس الفعل. فلست أرى ما يمنع هذه العرب الجرئية الألسنة، أن تعلب به في الاستفهام في قولك: (من تكون؟) فإنها إذا وقفت عليه كما تقف على قولك: (من تعرف؟) وهي تنوي الرفع، فيكون عندئذ (من تكون؟) فتحذف أضعف أحرفه لالتقاء الساكنين فتقول: (من تكن؟) في الاستفهام أيضاً. وقد فعلت العرب مثل ذلك في وقولك: (لم أبال) فتوهمت الوقف على حرف لا وقف فيه لأن أصله (أبالي) المكسورة اللام من نفس الفعل بعد حذف الياء للجزم، فكانت عندها: (لم أبال) فحذفت الحرف المستضعف في الكلمة وهو ألف العلة وقالت: (لم أٌبل)، واعتمدت ذلك وجرت عليه في غير الوقف.

وكالذي روى عنهم أيضا (رواه سيبويه وغيره) من قولهم (لا أدر) فحذفوا الياء لكثرة استعمالهم له كقولهم: لم أبل ولم يك. قال أبن سيده ونظيره ما حكاه اللحياني عن الكسائي: أقبل يضربه لا بآل، مضموم اللام بلا واو. وقال الأزهري ربما حذفوا الياء من قولهم: (لا أدرِ) في موضع: (لا أدري)، يكتفون بالكسرة منها، كقوله تعالى: (والليل إذا يسرِ) والأصل يسرى. وقال الجوهري بمثل الذي قال به سيبويه أيضا في تأويل الحذف في (لا أدر). وهناك شواهد أخرى لا خير في الإطالة بذكرها.

فهذا رأى عسى أن يكون فيه وجه من الحق، ودلالة على مقطع من مقاطع الصواب. فإن العرب أجرأ على لغتها وأعرف بها وبما ينبغي لها وما لا ينبغي. ولولا ما تبعثر من ذخائر الذاكرة لاعتمدت هذا الرأي بشاهد آخر في هذا الحرف بعينه، كان مر بي فأنسيته. ولعل الأخ يجعل باله إليه عسى أن يجده أو يقع له.

محمود محمد شاكر

<<  <  ج:
ص:  >  >>