ونعمم هذه الحقيقة فنقول إن المؤلمات سلوب وأن المفرحات ثبوت. لأن الألم يأتي من الفقد، والفرح يأتي من وجود شئ يفرح أو يصدر منه الفرح. ولا حاجة بالإنسان إلى أداة للفقد والخسارة، ولكنه يحتاج إلى أدوات كثيرة للإيجاد والتحصيل.
وقد مضى على الشرق زمن لم نسمع فيه غير الشكاية والحزن في شعره ونثره، وغير الشكاية والحزن في مواعظه وخطبه، وغير الشكاية والحزن في جملة أحواله وأعماله. ولم يكن ذلك الزمن الذي عمت فيه الشكاية والحزن زمن القدرة والعلم بل زمن الفقد والكسل. لأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلاء الحياة أعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى.
والطفل يبكي في اللحظة الأولى من حياته، ولكنه لا يعرف الابتسام قبل بضعة اشهر. لأنه في البكاء لا يحتاج إلى اكثر من صوت وهواء. ولكنه يحتاج قبل الابتسام أن يعرف وجه أمه وأبيه وان يدرك العطف بينه وبين أمه وأبيه.
وإذا تركنا شعور الضرورة إلى شعور المشيئة والاختيار تبين لنا أن الإنسان سريع إلى كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف المحاسن والمزايا. بل مغالط فيها بعد كشفها ومكابر في الشهادة بها لأصحابها.
فهو محجوب عن المحاسن باختياره وبغير اختياره:
محجوب عن محاسن الدنيا ما لم يتهيأ لها بأدوات الذوق والمعرفة وعمق البديهية وسمو الخيال.
ومحجوب عن محاسن الناس لأنه يحب أن يستأثر بالمحاسن لنفسه أو يحب أن يبالغ في تعظيم مزاياه وتصغير مزايا غيره. فلا يحتاج إلى اكثر من الأنانية العمياء يجهل فضائل الآخرين ومظاهر الكمال في المخلوقات؛ ولكنه يحتاج إلى النبل والإنصاف ورحابة الصدر ليعرف تلك الفضائل وينعم بعرفانها ويوفيها حقها من العطف والإعجاب.
فهو في معرض الدنيا معصوب العينين حتى ترتفع العصابة عن عينيه ليتعلم بعد جهل ويقتدر بعد قصور، ويغتبط بجمال من يراه بعد أن كان لا يراه.
وهو في معرض الحياة البشرية يضع كفيه على عينيه باختياره ولا يرفعهما حتى ترتفع عن ضميره عصابة الأثرة والجهود، وينفذ إليه شعاع النور من عالم الحق والإنصاف.