فيعجب ليو لماذا إذا يدعوها الجميع عمتهم ولا يدرك مكانها من أبيه ولا موضعها من الأسرة، ولعل نيقولا كذلك لم يكن اقل منه جهلاً بهذا الأمر. وكيف يتسنى له أن يعرف إن أباه احبها في صدر شبابه وأنها أحبته ولكنها أفسحت له الطريق ليتزوج بسيدة غنية يصلح بثروتها حال معيشته إذ رأت منه هذا الميل على الرغم من حبه إياها حباً وثقت منه؛ وكانت تلك السيدة الغنية هي امه، فلما ماتت أمه عاد أبوه يطلب يدها فرفضت أن تتزوجه ولكنها وعدت أن تكون أماً أخرى لبني، وها هي ذي تبر بوعدها، فتكون لهم أماً في مكان أمهم.
لم يكن يعرف ذلك نيقولا مفصلاً هذا التفصيل فما يجدر ان يتحدث إلى الأطفال بمثل هذه الأمور، وحسب أولئك الأطفال أنها تحبهم وانهم يحبونها حباً شديداً، وعلى الأخص ليو فقد كان شديد الحب لها قوي التودد إليها. . .
على أن عطف العمة تاتيانا عليه لم يشغله منذ هذه السن الباكرة عن التفكير في أنها ليست أمه، وإن كان يرى منها مثلما يرى الأطفال من أمهاتهم؛ وإنه ليسأل نفسه أين امه؟ لقد ذكر له نيقولا مرات إنها ماتت وإنه ليرى على وجه نيقولا إمارات الغم كلما أشار إلى ذلك وير كذلك دلائل الرهبة والألم. فما هذا الموت الذي حرمه من أمه؟ إن خياله يصوره له شيئاً كريهاً مخيفاً وإنه ليخاف من اسمه وينفر منه ولكنه لا يدري ما هو.
وإن الطفل ليرهف أذنيه كلما تحدث متحدث عن أمه، ولئن كان يحزنه انه لم يرها فإنه يطيب نفساً بما يسمع من صفاتها والثناء عليها، وإنه ليجد من عطف عمته تاتيانا ما يخفف حزنه؛ ثم إنه ليزداد حباً لهذه العمة كلما سمعها تذكر بالخير أمه، وتظهر الأسف على فقدها بكلماتها أو بما يبدو من صور الهم على ملامح وجهها. .
وتقع عينا الطفل في القصر على عدد من المربين والمربيات، ومن الخدم على اختلاف مراتبهم وتنوع أعمالهم؛ ويجد لأبيه السيطرة على هؤلاء جميعاً، فما يلقاه أحد منهم إلا بعبارات التجلة وتحيات الاحترام، فيداخل نفس الطفل شعور الفخر بجاه أبيه وعظمته، ثم انه إذا مثل بعض هؤلاء الفلاحين الذين يسكنون القرية القريبة بين يدي أبيه رآهم يحنون رؤوسهم خاشعين، ويخاطبونه بألقاب السيادة والعظمة، والسعيد منهم من ظفر بلثم يده إذا شاء أن يمدها إليه، ويعجب إذ يرى أباه يخاطبهم أحياناً في ازدراء ويعنف عليهم في لهجة