للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العيون. أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية الكلام على شيخ الأزهر. أنتم أيها الأزهريون جميعا جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعا لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغد للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد صلاة خشوع وتبتيل، أو للأكل فيه أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس أو الخرنوب. هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض، للاستجمام والاستحمام، لا يأملون من العلم مالا وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا. هذا المرصفي يحدث عند الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان دار بالية في حي قديم وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب مرشوش على البلاط يدرا عند هجوم البق لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذه الدار البالية من أن يشرح عليه الكامل. وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحدا من أبناء الدنيا، لأنهم لم يتذوقوا لذاتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها. كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها، هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الانبابي شيخ الازهر، ويسلم عليه؛ فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده ويقعد إلى جنبه فيقول له مغضبا: (يا سيدنا الشيخ الست تقوم للخديوي؟) قال: (نعم) قال: (فلم لم تقم لي؟) قال: (إن الخديوي ولى الأمر وأما أنت فلست منا). فيزيد ذلك اللورد إجلالا له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته.

وهذا هو رياض باشا وكان رئيس الحكومة وناظر المالية يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرسا فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل، حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له: (يا باشا أما أن لكم أن تجعلوني معكم ناظرا؟). فيدهش الباشا ويقول: (ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>